أذكر مِن أطفالِ عائلتي مَن كان في سني عمره الأولى مُحبًا للطبيعةِ مُتماهيًا معها، حتى إنه أمسكَ ذات يوم بخنفساءٍ ولم يتجاوز مِن عمرِه الخامسةَ بعد، وخفَّ إلى والدته فرحًا يناولها إياها، مُتصورًا أنها هديةٌ قيمةٌ ستفرحها، ولما صَرَخت ورَكضَت مُبتعدَةً عنه فزعًا؛ انخرط في بكاءٍ شديدٍ وهو يشعر بالخذلانِ ويشكو لجدَّته بين الدموع بأن الهديةَ التي جاب أرجاءَ الحديقةِ في دأبٍ وفتَّش العشبَ إلى أن عثرَ عليها، فحملها بعنايةِ وحِرص المُحبين؛ لم تُعجِب أمه. كلَّما مرَّ الموقفَ بذهني غلبني الضَّحكُ ولم أتمكَّن مِن مُقاومته.
• • •
يأتي الفعلُ جَابَ في قواميسِ الُّلغة العربيَّة دالًا على حَركةٍ ما؛ فإذا قيل جَابَ فلان البلادَ، كان المعنى أنه لفَّ ودار في أنحائها، والفعلُ يُشير من قديمٍ إلى السَّير على الأقدام؛ إنما تطوَّرت وسائلُ النقلِ وتباعدت المسافاتُ وبات اللجوءُ إلى القدمين عملًا اضطراريًا ليس إلا. ثمَّة استخدامات أخرى للفعل؛ فجَابَ الرجلُ سترتَه أيّ جعل لها جيبًا، وجَابَ الصَّخرَ أو الحَجَر أيّ ثقبه والآيةُ القرآنيةُ هنا أشهر مِثال. الفاعلُ جائبٌ والمَفعول به مَجوبٌ، والفعلُ لا علاقة له باستخدامنا لمفردة "جَابَ" التي تعني أحضر شيئًا ما؛ فالأصل فيها هو: جاء به، وقد حُذِفَت الهمزةُ لتسهيل التداول فصرنا نقول: جابه، وقد اشتققنا من الفعل الجديد صِيغَ المُضارعِ والأمر، وسككنا ما يلزمُ لاستعمالاتِ الحياةِ اليومية.
• • •
السؤالُ المُعتاد الذي يُواجهه العائد إلى بيته بعد يومِ عملٍ: جِبت لنا إيه معاك؟ في الدراما القديمةِ التي غَدَت مِن المُضحِكات المُبكيات؛ كان ربُّ البيتِ يدخل من الباب حاملًا بطيخة، وبعضُ المرات مُدججًا بأكياسٍ من الوَرَقِ المُقوى تضمُّ أنواعًا أخرى مِن الفاكهة، إضافة إلى لفافاتٍ فيها من اللحمِ والجُبنِ والزيتون ما يطيبُ؛ أما وقد صارت الأحوالُ الماديةُ عند غالبِ الناس ضنكًا، فقد توارى السؤالُ ولم يعد الردُّ منتظرًا. تحوَّلت عودةُ المَرءِ إلى عائلته من مَوقف فَرحٍ وفُضول مُتجدّدَين، إلى مَوقف خزي وإحباطٍ لا يُعرَف متى يزولان.
• • •
أحيانًا ما ينتظر الواحد خبرًا مُفرحًا؛ لكنه يُفاجأ بما يُوجِعه ويُلبِسه ثَوبَ الكآبة. درجنا على أن تترقَّب أسرٌ بأكملها نتائجَ الأولاد في شهادةِ الثانوية العامة، فإن جاءت أقلَّ من المُراد عمَّ الحزنُ وربما الغَضَب؛ إذ الميزانية لا تحتَمِلُ الإعادةَ، والرجاءُ المَعقود بالتقدُّم إلى دراسةٍ جامعيةٍ ذات شأن قد تبخَّر مع الدرجاتِ القليلة، وبدلًا من تلقي التهنئةِ تأتي المُواساة، ويتغامز المُحيطون ويتلامزون، لائمين مَن مُنيَ بالفشلِ الفاضح: "جَابَ لهم الهمّ والغم".
• • •
قد يشعر المَرءُ أنه أتى بما استعصى على الآخرين، وأنجزَ ما عجزوا عنه؛ فإن لم يكُن شعوره مُبررًا مقبولًا، سخروا منه: "كأنه جابَ الديب من ديله" والمعنى أن عملَه ليس عظيمًا كما تصوَّر، وأنه لا يستدعي التفاخُرَ والتباهي. يظنُّ البعض أنهم قد جاءوا حقًا بالذئبَ من ذَيلِه، وحقَّقوا انتصاراتٍ كبرى، والحقُّ أن بعضَهم أحرزَ إخفاقاتٍ يُرثى لها، والشاهد الآني ما يَحدث هنا وهناك؛ فالتاريخُ يتعرَّض إلى مَحو وتَدمير، والجهلُ سيدٌ والقوةُ مَغرورةٌ عَمياء.
• • •
النُقطةُ في الثقافة الشعبيةِ القديمةِ تعني الشَّلل الذي غالبًا ما ينتُج عن جلطةٍ بالدماغَ، تؤثر على مراكزِ الحركة، فإن أعقبت مَوقفًا عصيبًا، اتهم الناسُ الطرفَ السليمَ بأنه جابَ للمُصابِ نُقطة، والتعبير كنايةٌ عن تصَرُّف مُستفِز يُمكنه أن يستثيرَ انفعالاتٍ حادة، قد تستتبِعها عواقب مُخيفة، والأمر مِن الناحيةِ الطِبيَّة وارد الحدوثِ؛ لا مُبالغة فيه ولا تهويل.
• • •
يقول المأثورُ الشعبيُّ العتيق: "ياما جَاب الغُرابُ لأمه"، والأمثولة كنايةٌ عن شيءٍ بلا قيمة، فالغرابُ يلتقط ما وجد أمامه بغضّ النظرِ عن نفعِه، وكثيرًا ما يَحوي عشُّه أغراضًا بلا معنى ولا منطق، ومثله بشرٌ يَهوون جمعَ ما تيسَّر وتخزينَ ما أمكن؛ حتى ليتحولَ مُحيطُهم إلى فضاءٍ من النفاياتِ.
• • •
عودة إلى الفعل الأصليَّ جَابَ؛ ثمة ثنائياتٌ لغويةٌ شهيرةٌ منها: رائحٌ غادٍ، قائمٌ نائمٌ، وذاهبٌ جائبٌ. تشير الأضداد إلى الاستمراريةِ والتَّواصُل، فحالٌ تُسلّم إلى أخرى، ومقامٌ يقود إلى نقيضِه، حراكٌ لا ينتهي ولا يتوقَّف ما دامت الحياةُ، والحقُّ أنه مَصدر الأملِ الرئيس، فما من شيءٍ يبقى على وضعِه، والضيمُ يومًا إلى زوال.
• • •
بعضُ الناسِ يَخشون غيابَ الضَّوء، يَشعرون بالقتامةِ والضِيق إن قاربت الشَّمسُ على المَغيب وتلاشَت ألوانُ الأفق، فإن حَلَّ المساءُ أضاءوا ما أمكن مِن مَصابيح. البعضُ الآخر وأنا منه، يُفضل الضوءَ الخافت ويُرحب بالليلِ ما استوى، لا يُمانع أن يجوبَ الظَّلامَ وأن يَجوسَ في مكانٍ بلا أنوار، فإن تعرَّضَ التيارُ الكهربائيّ لعطلٍ ما؛ كانت فرصةٌ للانقطاع عن العَملِ والاستغراقِ في تأمُل هادئ لا يحفُّه ضَجيج.
• • •
إذا جَابَ الخَبرُ أنحاءَ المدينةِ فالمعنى أنه انتشر بين ربُوعِها. عادةُ الأخبار المُثيرة أن تجوبَ الأنحاءَ وأن تنتقلَ بين الناس، أما عن الوسيلةِ؛ فتتغيَّر باختلافِ العصرِ وتبدُّل الأزمان. في وقتنا الراهن، احتلَّت مَواقع التواصُل الاجتماعيةِ المَرتبة الأولى على قائمةِ الناقلات، فأصبحت مصدرَ الخبرِ الأول، لكنها قَضَت في الوقت ذاته على مساحاتِ التأمّل والتفكير والتحليل، ولم يَعد من براحٍ للتروّي إزاء تسارع الأحداث.