إذا كانت مصر تضار حين تمتنع المجموعات النافذة فكريا وسياسيا وإعلاميا عن قبول الرأى الآخر وتتورط فى التخوين والتعريض والتشويه عند الاختلاف إن بشأن قضايا داخلية أو إقليمية أو دولية وتقضى بذلك على موضوعية النقاش العام وثيقة الصلة بتعدديته وتحول دون تعويل منظومة الحكم / السلطة ــ هنا بمعزل عن معارضتى لها لانقلابها على الديمقراطية ولانتهاكها للحقوق وللحريات ولهيمنة المكون العسكرى ــ الأمنى على الحكم وإماتته للسياسة ــ على الموضوعية والتعددية هاتين لممارسة شيء من إعادة النظر والترشيد لتوجهاتها وقراراتها ــ بالقطع فى حدود ما يتيحه هوس الاستبداد والسيطرة على الدولة والمجتمع والمواطن، فإن مصر تضار أيضا حين تعطل ذات المجموعات النافذة عقلها الجماعى وترفض رؤية الحقائق وإدراك معانيها ومدلولاتها أو تصمت عن ضرورة التعاطى معها بإيجابياتها المحدودة وسلبياتها الكثيرة اليوم.
•••
وأعود مجددا إلى القتل وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التى تواصل إسرائيل ارتكابها فى غزة، والحقائق التى لا ترى ــ بل ويروج فى المجال العام على نحو ممنهج لنقائضها، والمعانى والمدلولات التى لا تدرك ــ بل ويدفع إلى الواجهة بما يضرب بها عرض الحائط.
١. لم يثبت على حركة المقاومة حماس التورط فى خطف وقتل المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، ونفت الحركة والفصائل الفلسطينية الأخرى كامل صلتها بالحادثة. خلال الأيام القليلة الماضية، وبعد أسابيع من بدء العدوان الإسرائيلى على غزة وتوظيف حكومة بنيامين نتنياهو لحادثة خطف وقتل المستوطنين الثلاثة كذريعة، أثارت تقارير صحفية وتليفزيونية وملاحظات لإعلاميين على مواقع التواصل الاجتماعى غربية الكثير من الشكوك فى «الرواية الرسمية» الإسرائيلية وفندت التذرع بمسئولية حماس أو فصائل أخرى عن الحادثة.
وتمثل الأبرز فى هذا الصدد فى مجموعة تغريدات وضعها على موقع تويتر (٢٥ يوليو ٢٠١٤) أحد مراسلى «بى بى سى» فى إسرائيل (جون دونيسون) وذكر بها أن المتحدث الرسمى للشرطة الإسرائيلية ميكى روزنفيلد أكد له على أن قتلة المستوطنين الثلاثة ربما كانوا من المتعاطفين مع حماس إلا أنهم لا يتبعونها تنظيميا ولا يأتمرون بأوامر قيادتها وأن قيادة حماس لو كانت هى التى وجهت لخطف وقتل المستوطنين الثلاثة لكانت إسرائيل قد علمت بذلك قبل الحادثة (فى إشارة لاختراق أو تنصت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية لبعض مكونات حماس والفصائل الأخرى).
أما تقرير القناة الثانية الألمانية «تست دى اف» عن حادثة الخطف والقتل والذى عرض ببرنامج «أوسلاند جورنال» (مجلة الخارج) فى ٢٣ يوليو ٢٠١٤، فأشار إلى معرفة الشرطة الإسرائيلية بمقتل المستوطنين الثلاثة بعد خطفهم مباشرة وأن حكومة نتنياهو لم تعلن ذلك لكى تتم تعبئة غضب الرأى العام ضد غزة (لأن الخطف وغموض المصير بداية ثم اكتشاف القتل أكثر قسوة) ولكى يمرر داخليا ودوليا وضع حماس وبقية الفصائل موضع الاتهام دون دليل والاعتقالات العشوائية للفلسطينيين فى القدس والضفة الغربية ولكى تستعد آلة القتل الإسرائيلية لعدوانها الجديد على غزة (ولم يذهب التقرير، على عكس ما أشار إليه عدد محدود من الصحف العربية ونفر قليل من الكتاب العرب بالتعويل على تقرير القناة الثانية الألمانية، إلى أن حادثة خطف وقتل المستوطنين الثلاثة كانت بعيدة عن السياسة أو لم يكن لها إلا أسباب مادية بحتة دفعت برجل لخطفهم وقتلهم!).
تدلل تغريدات مراسل «بى بى سي» وتقرير القناة الثانية الألمانية، وغيرهما تقارير وملاحظات أخرى، على أن إسرائيل أنتجت سيناريو متكاملا للتلاعب وللتآمر لتبرير العدوان والقتل بحق الشعب الفلسطينى فى غزة، وتماهت هنا مع سيناريو التلاعب والتآمر الأمريكى ــ البريطانى الذى ألصق زيفا بنظام صدام حسين امتلاك السلاح النووى ثم وظف الزيف فى تبرير الغزو الأمريكي ــ البريطانى للعراق. فقط اكتشف البعض داخل الإعلام الغربى التلاعب والتآمر الإسرائيليين سريعا، وبادر إلى فضحه ونزع المصداقية عن الخطاب التبريرى لحكومة بنيامين نتنياهو.
٢. وكما لم تكن حادثة خطف وقتل المستوطنين إلا ذريعة للتلاعب وللتآمر لتبرير العدوان على غزة، لم تكن صواريخ الفصائل الفلسطينية التى أطلقت باتجاه المستوطنات والمدن الإسرائيلية بعد بدء الاعتقالات فى القدس والضفة الغربية وبعد مقتل شاب فلسطينى (مقدسي) على يد متطرفين إسرائيليين وقبل العدوان إلا ذريعة أخرى وظفت للتبرير ولإيهام المجتمع الدولى والرأى العام العالمى بضرورة ممارسة إسرائيل لحق الدفاع عن النفس.
بالقطع، تريد حكومة نتنياهو إبعاد خطر صواريخ حماس وبقية الفصائل الفلسطينية عن المستوطنات ومدن الجنوب الإسرائيلية. إلا أنها وبعد هدنة ٢٠١٢ التى استمرت متماسكة لأكثر من عام وعنت توقفا كاملا لإطلاق الصواريخ، أرادت التحرك عسكريا لتدمير القدرات الصاروخية الفلسطينية وإضعاف حماس فى غزة وإدخال حكومة التوافق الوطنى الفلسطينية فى أزمة سريعة ــ فى كلمته الأولى بعد الإعلان عن خطف المستوطنين الإسرائيليين، اتهم نتنياهو «حماس الإرهابية» بالتورط فى الحادثة وأشار إلى أن السلطة الفلسطينية تضع يدها فى يد حماس «بحكومة تضر بمصالح الفلسطينيين» ولا تعترف بها إسرائيل.
بحادثة خطف وقتل المستوطنين أو بدونها، بصواريخ المقاومة الفلسطينية أو بدونها، كانت حكومة نتنياهو ستقدم على جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية فى غزة وهى التى اعتادت دوريا على إعمال الحصار (القتل البطيء) والقتل والعنف والإجرام الاستيطانى ضد الشعب الفلسطينى. بحادثة خطف وقتل المستوطنين أو بدونها، بصواريخ المقاومة أو بدونها، كانت إسرائيل ستعتدى على غزة وهى التى لم تتوقف اعتداءاتها منذ نشأتها فى ١٩٤٨ ولم يرتدع جيشها أبدا لا بقرارات إدانة أممية ولا بتقارير تقصى حقائق دولية.
٣. أساءت السلطات المصرية إدارة ملف «مبادرة مصر» لوقف إطلاق النار، إن بالامتناع عن التشاور والتنسيق الجاد مع حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى بشأنها، أو برفض تطويرها وتعديل بعض بنودها حين صار جليا تورط إسرائيل فى جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية فى قطاع غزة وتمسك الشعب الفلسطينى فى غزة بضرورة رفع الحصار بعد سنوات من التعرض للقتل البطيء.
•••
وتورطت قطاعات واسعة فى الإعلام العام والخاص المصرى وكذلك بين المجموعات النافذة فكريا وسياسيا وحزبيا فى الإساءة المنظمة لدور مصر، إن عبر تبرير العدوان الإسرائيلى نكاية فى حماس باختزال فلسطين وغزة إلى حماس وحماس إلى فرع تابع لجماعة الإخوان المسلمين المصرية وتجاهل هويتها الأصيلة كحركة مقاومة للمحتل الإسرائيلى، أو عبر الإسراف فى كيل الاتهامات لقيادات حماس بالتآمر على شعبها الفلسطينى وعلى مصر لمصلحة أجندات تركية وقطرية وإخوانية، أو عبر إلصاق الصيغ الاتهامية الزائفة كادعاء الثورية أو السعى لتقزيم وإحراج منظومة الحكم / السلطة المصرية بالأصوات والحركات التى تضامنت مع الشعب الفلسطينى ومع غزة سياسيا وبتسيير قوافل المساعدات العلاجية والإنسانية وطالبت بفتح معبر رفح بسيادة مصرية خالصة وبرقابة مصرية كاملة.
•••
إساءة إدارة دور مصر وملف «المبادرة» هى التى دفعت الكثيرين فى فلسطين والعالم العربى وخارجه إلى ممارسة النقد المشروع باتجاه القاهرة، وتطويره بعد ذلك إما إلى مطالبة بتعديل المبادرة وبإعادة التوازن إلى دور مصر أو إلى البحث عن بدائل إقليمية ودولية توصف العدوان الإسرائيلى كجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وتسعى لحماية الشعب الفلسطينى بإبعاد آلة القتل الإسرائيلية عنه ــ وجرائمها ومذابحها فى الشجاعية وبحق الأطفال والأسر المحتمين بالمدارس والحدائق العامة باتت على مشهد ومسمع من العالم كله ــ وبرفع الحصار عن القطاع وإنهاء وضعية الموت البطىء المرتبطة به.
•••
أليس الأجدر، إذن، بالمجموعات النافذة فكريا وسياسيا وإعلاميا فى مصر التى رفضت رؤية هذه الحقائق ــ أو بعضها ــ وروجت لما يتناقض معها وضربت عرض الحائط بمعانيها ومدلولاتها أن تعيد النظر فى الأمر برمته وتحاول ــ ربما ــ التخلص ولو جزئيا من قيود تأييد الموقف الرسمى للحكم / السلطة ومن تعليمات الأجهزة «السيادية» ومن الترويج الردىء لخطاب الكراهية بحق فلسطين والمقاومة؟ أليس الأجدر بهم التوقف عن كيل الاتهامات باتجاه من تضامنوا مع فلسطين وغزة ولم يزيفوا الحقائق ورفضوا تجاهلها والصمت عنها وسبحوا ضد التيار العام فى مصر؟ أليس الأجدر بهم أن يمارسوا شيئا من النقد الذاتى ويضبطوا البوصلة على الدفاع عن الحقوق المصرية والفلسطينية والعربية التى أبدا لا تتناقض أو تتعارض؟
غزة هى العنوان الأوضح لقيم تقرير المصير والحرية والإنسانية الأوضح فى عالمنا اليوم، أليس الأجدر بكم ألا تتخلفوا عن رؤية حقائقها وألا تتركوها دون تضامن لا يقف عند حدود مواقف رسمية؟