سَتر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سَتر

نشر فى : الجمعة 2 أغسطس 2019 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 2 أغسطس 2019 - 9:10 م

للصوفيَّة نصوصُها وأشعارها المُحمَّلة بالدلالات؛ يقول النفَّري في المَواقف والمُخاطبات: "الليل والنهار سَتران مَمدودان على جميع مَن خَلَقت، ولقد اصطفيتك فرفعت السَّترين لتراني.." إلى آخره. في النصِّ صورةٌ، وفي الصورةِ صورةٌ أخرى، والسَّاتر المَذكور لا يُخفي أمرًا ماديًا تسهُل الإحاطةُ به، بل يقوم حاجبًا لإدراكِ الحواسّ مُعطلًا لها.
***
السَّتر في قواميس اللغة العربية هو الحَجب، وسَتَرَ الشيءَ سَتْرًا أي أَخفاه وحَجَبه وغَطَّاه، وتَسَتَّرَ أَي تَغَطَّى، أما السِترُ بكسر السين فهو كُلُّ ما سُتِرَ به، والجَمع أَسْتار. تشير السُّتْرَة كذلك إلى كل ما اسْتَتَرَ المَرءُ به، وفي عصرنا الحديث السُّترةُ جُزءٌ زيٌّ رسميّ؛ يعطي صاحبَه لونَ الوقار وقد تفرضُ بعضُ الأماكن لدخولِها ارتداءَه؛ احترامًا وتقديرًا. إذا قِيل "على جَسَدِه ما يَستُر"، كان المَغزى قِلَّة ما يَملِك الشخصُ المَعنيُّ؛ قَولٌ فيه إشارة إلى رقَّة الحال، لا إلى وَفرة المال.

***
نسبةٌ عظمى مِن الناس لا تطلُب في لحظتِها إلا السَّتر، والسَّتر المَطلوب مَقصورٌ على حِفظ ماءِ الوجه؛ ألا يُخجِلها الاحتياجُ وَسَط الآخرين، وأن تنعمَ بما يقيها الحرجَ في حُضور القَريبِ والغَريب. زالت خطوطُ السَّتر عن كُتلة إضافية مِن البشر بين حدودِنا الجغرافية؛ لا تَوقُّعًا أو تخمينًا أو مُبالغة، بل إحصاءات رسميَّة مُعلَنة؛ ترفع في وجوه مَن لا تزال بعروقِهم دماءُ الاستحياء؛ رايةً سوداء.
***

"أستُر عَليّا" عبارةٌ شَهيرةٌ في الدراما المصريَّة؛ غالبًا ما تُلقي بها البَطلةُ في تَوَسُّل، حين تعرف أن علاقتَها بمَن ترجو مِنه السَّترَ قد أثمَرت، وخلقت حياةً أخرى في أحشائِها؛ يصبح السَّتر هنا رمزًا للزواج. ظَهَر فيلم "كَشف المَستور" في النصف الأول مِن التسعينيات، وقد أخرَجَه الراحلُ الكَبير عاطف الطيب. عنوانُ الفيلم يُنذِر بإفشاءِ ما طالَ كِتمانه مِن أسرار، وبإذاعةِ ما يُخشَى مِنه؛ لذا يَكون مِن تَرشيدِ الجهدِ الامتناعُ عن تناوله.
***
يَتواتَر تعبير "ما بيستُرش" في حواراتِنا العاديَّة؛ أحيانًا ما يُوصَف به شخصٌ لا يتوخَّى الحَذَر في كلامِه وفِعله؛ فيقَع برعونتِه في وَرَطات مُتكرِّرة، ويُورط مَن مَعه، وقد يَكشِف ما تَوَافَق جَمعٌ على الابتعاد عن ذِكره، وعزموا على سَترِه. في أحيان أخرى يكون التعبير كِنايةً عن عدم قُدرة الشخصِ المَهجو على أداءِ ما يُنتظَر مِنه، يُبلي ما دون المُستوى المَنشود؛ فيخزل مَن أشاد به ورشَّحه؛ يفضح سوءَ اختياره ولا يستُره.
***
ثمة سِتارٌ وسِتارةٌ والمَجمُوع سَتائرٌ، وكُلُّها مُسمَّيات لما يَحجِب ويُخبئ ويُخفي. جَرت العادةُ على استخدام "السِّتار" في الإشارة إلى حاجز ما؛ ماديًا كان أو معنويًا وقد يُقال مَثلًا أن فلانًا يُداري أحاسيسَه خلفَ سِتارٍ مِن الجُمود، أما "السِّتارة" فأكثر استعمَالًا وألفة؛ إذ تجد طريقَها إلى أحاديثٍ مَعيشيَّة بلا مَجازات وتأويلات؛ تُحَاك الأقمشةُ على اختلافِ أنواعِها، وتُعَلَّق في هيئة لطيفة داخل المَنازلِ والمَسارحِ وما في حكمِها مِن بُيوت، فتؤدي أغراضًا مُتعدِّدة: تسمَح بتغيير المَناظر، وتُيسِّر حركةَ المُمَثلين واستعداداتَهم، وتُخفِّف مِن قوَّة الضوء، وتُجمِّل ما ساءت حالُه مِن الجُدران، وتمنع فضولَ الجيران مِن اختراقِ النوافذ والشُّرفات إلى المُقيمين.
***
يَعرضُ واحدٌ على زميل أو صديق مُساعدةً مادية فيُجيب شاكرًا: "مَستورة"؛ يعني أن مَعيشتَه مُستقرَّةٌ إلى حدٍّ ما، لا يتمتَّع فيها بمُفردات الرفاهةِ؛ لكنه لا يقع في مَرتبة الفاقة وعدم القُدرة على استيفاءِ أدنى المُتطلَّبات. المَستورُ راضٍ في العادة، وقانعٌ بالسَّتر؛ لكنه يخشى يومًا يُصبح فيه على شفا الهُوَّة التي لا مَخرَج مِنها؛ فغيابُ السَّتر فَضح وانكِسار.
***
الليلُ سَتَّار؛ وستَّار صِيغة مُبالغة تعني كثيرَ السَّتر، فالظلام يُخفي ما تعذَّرت على النهارِ مُواراتُه، ويمنح الأمانَ للائذين به، ويُلقي سدولَه على الجميع؛ يستوي عنده الغنيُّ والفقير، المُتخَمُ والجَائع، الخاضِع والثائر.
***
يتخذ ساترًا أي يلجأ إلى ما يَقِيه؛ ربما مِن طلقاتِ رصاص، أو وابلِ حجارة، أو أجواءٍ عاصفة. قد يكون السَّاتر جدارًا أو مظلَّة، وقد يكون جريدةً يضعها صاحبُها فوقَ رأسِه فتحميه مِن شمسٍ أو مَطَر. بعضُ الأحوالِ قد يُصبح السَّاتر قبرًا؛ لا سبيل لاختياره. أنشدَت الخنساءُ في رثاءِ أخيها صَخر: كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ .. فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ .. تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ .. وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ. بُكائياتُ الخنساء على صَخر طويلةٌ، وحزنُها كبير، لكن السَّاتر هنا أكبر مِن لوَعة الفُراق وأمضى.
***
قيل قديمًا: إذا ضاقَ صدرُ المَرءِ عن سِرِّ نَفسِه.. فصدرُ الذي يُستَوْدَع السرَّ أضيقُ، وكأن المَرءَ إن عَجَزَ عن سَتر نفسِه، ما جَازَ له أن يسألَ الآخرين سَترَه، والحقُّ أن سؤالَ السَّتر صار مُستعصِيًا على الإجابة في العموم، لذا كُلما توَجَّس الناسُ خِيفَةً، وتوقَّعوا شرًّا، لم يستعينوا ببشرٍ بل قال مِنهم قائلٌ: ربنا يُستُر.
***
عند المُشتغلين بعلمِ تحليلِ الخطاب، قد يكون الانتقادٌ صريحًا مُباشرًا، وقد يغدو مُستَتِرًا تشوبه مَسحةٌ مِن الغُمُوض؛ إنما يُبينه السياقُ المُحيط. ربما لا ينجو الفاعلُ بفعلتِه في الحالِ الأولى، خاصة إذا وَجَّه انتقاده لربِّ سُلطةٍ غاشِمة، أما في الحال الثانية فاحتمالات النَّجاةِ أعلى بقليل، والنَصُّ ما توارَت شواهدُه واعتمدت على فِطنة قارئِه؛ آمنٌ مَستور.
***
سَتر العَوراتِ مِمَا تَوافَقَ عليه الناسُ؛ لكنَّ الحالَ إذا صارت إلى انحدار، واشتدَّ الظُلمُ واستحكَمَ البؤسُ وتعاظمَ الجُور؛ انكشفت عَوَراتُ المُجتمِع كافة وتناثرت في الأرجاء، ثم توالدت وتكاثرت؛ حتى لم تَعُد تكفي لسَترها أميالٌ مِن الأثواب.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات