العَـــــوّ أيضًا يموت - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العَـــــوّ أيضًا يموت

نشر فى : الجمعة 2 سبتمبر 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 2 سبتمبر 2016 - 9:10 م
ما مِن أب ولا أُم لم يخيفا أولادهما صغارًا بالعَوّ. اسكت أو يأتى «العو» ليأكلك، لا تلعب قبل أن تنته مِن طعامك أو أُخبر «العوّ» بما تركت فى الصحن. يُتَرجَم العوّ فى مُخيلة الصغار بأشكال مختلفة؛ وحشٌ مُخيف أو كائنٌ قبيح دميم، مَخالبٌ حادة وفمّ واسع مُستعد دومًا للمضغ والابتلاع، وهو فى الأحوال كلها وفى صوره وتجلياته جميع، غير مُرَحَّب به ولا بسيرته.

يكبر الصغار ويعرفون أن العوّ خياليّ، لا يوجد أبدًا فى عالم الحقيقة؛ لا عَوّ ولا أبو رِجل مسلوخة ولا ساحرة شريرة. يدخلون عالم الكبار، حيث يبدأ التخويف بأشياء أخرى أقل خيالا وأكثر واقعية وقسوة.

***

مُقدمتى عن “العوّ” ليست جزءًا من ذكريات الطفولة القديمة، أردت الإفراج عنها بدافع التسلية والتسرية عن النفس وعن القارئين، بل هى مُرتبطة بهاجسٍ أصادف ما يؤججه بين الحين والحين، وقد صار مُلازمًا لى فى الآونة الأخيرة، تَطرقُ شواهدُه وتبعاتُه بابيَ فى اضطرادٍ وإصرار. يختلف جيرانٌ فى أمر مِن أمور مَعيشتهم المُشتركة، يحتدمُ الخلافُ ويتعذّر الحلُّ، فيهدِّدُ مَن له الحظوة جارَه بالعَوّ. يتنازع مالكٌ ومُستأجرٌ على بيعٍ أو قيمة إيجار، فينبّه أحدهما الآخر إلى أنه يعرف العَوّ شخصيًا. يتنافس زميلا عملٍ يجمعهما مكانٌ واحد على مَنصبٍ أو مكافأة، ويصل التنافسُ حدَّ الخطر، فيستنجد أحدُهما بالعَوّ كى يُجيره ويقضى على زميله.

ثمّة ميلٌ مُتصاعدٌ للتخويف، وفى عالم الكبار تنقلب المخاوفُ الوهمية إلى أخرى ملموسة، ويتحول التهديد الذى لم يتحقق أبدًا فى الطفولة إلى عمل ماديّ له نتائج وآثار وخيمة، فالعَوّ يأتى صِدقًا ويفعلُ الأفاعيل. لكلٍّ منّا «عَوّ» يَرهَبه ويتمنى لو يأمن جانبه، والعَوّ الذى يخشاه غالبية الناس اليوم هو المؤسسة الأمنية بمختلف أفرعها وأجهزتها. كان العَوّ فى المواقف الثلاثة السابقة على وجه التحديد شخصًا ينتمى إلى جهاز الشرطة، لا يتدخل لتحقيق العدل أو لإنصاف المظلوم، سواء كان أمينًا أو ضابطًا أو حتى مُخبرًا، بل يظهر لنصرة مَن يعرفهم على الآخرين، بغضِّ النظر عن طبيعة الموقف ومساره واتجاه أصابع الاتهام وأدلة الإدانة. ثمّة استقواءٌ مُتزايدٌ بسُلطة لا تعترف بمَنطقٍ أو قانون ولا تؤمن إلا بالقوة المُطلقة وباللحظة الراهنة.

***

العواء فى لسان العرب هو صوت تمدُّه الكلاب والسباع ويختلف عن النباح، ويقال أيضًا «العوَّة»، كما يُقال تعاوى بنو فلان على فلان أى اجتمعوا عليه وتكاثروا، وربما كانت كلمة «العوّ» التى نعرفها مُستَمَدّة مِن مَجموع هذه المُفردات ومعانيها، فالعَوّ كائن يُصدِر صوتًا يجزع منه الناس، وربما يهاجمهم أيضًا.

***

يحكى أن رجلا أمسى بصحراء موحشة فعوى ــ كعادة الرجال آنذاك ــ لتسمعه الكلاب، فإذا كان بقربه مَن يستأنس به مِن البشر أجابه كلبه، وقد انتظر الرجل أن يُجابَ عواءه فاستجاب ذئبٌ لا كلب، وحضر إلى موضعه، فقال الرجل حين رآه: لو لك أعوى ما عويت، وقد صارت مقولته مِن بعد أمثولةً تتناقلها الألسنة.

كثيرًا ما ألقى العَوّ القديم فى روعنا هلعًا ودفعنا دفعًا إلى الطاعة والتسليم، بعضُنا واصلَ الرضوخَ على مدار مشوار حياته والبعض الآخر تمَرد على مَخاوفه واختار طريقًا تحفّه المَخاطر. عرفت مؤخرًا بأمرِ طبيبٍ يعملُ بمستشفى عام فى مُحافظة الاسكندرية. اختلف الطبيب مع مديرة الاستقبال وتعرَّض إلى ضربٍ وحشيّ مِن أحد معاونيها ونُقِلَ لتلقى العلاج مُصابًا إصاباتٍ بالغة. تقدَّم الطبيبُ المضروبُ بشكوى ضدّ الرجل الذى اعتدى عليه، فما كان مِن مدير المستشفى إلا أن هدده بالعوّ؛ اجتمع به وأخبره فى حضور آخرين أن عليه التنازُل عن شكواه وتقديم طلب بالنقل مِن المكان، فإن لم يفعل أبلغ عنه المديرُ جهازَ الأمنِ الوطنيّ واتهمه بإثارة الفتنة بين العاملين. لا يزال الطبيب حتى اللحظة يقاوم الضغوط ويرفض التراجُع والانزواء، لكنه أيضًا عاجزٌ عن التصرُّف، فالعوّ فى حاله هذه شديدُ الوحشية لا ينجو مِن براثنه كثيرون، وهو فى الوقت ذاته واحدٌ مِن الملاذات المفترضة، إذ يستجير الناس نظريًا بالأجهزة الأمنية كى تحميهم مِن البطش والظلم والعدوان، لكنها عمليًا تمارس عمليات التنكيل والاعتداء. يصبح الشخص المستجير بالشرطة كما الرجل الذى أراد أن يستغيث بكلب يحميه فجاءه ذئب يفترسه. هو المستغيث بمَن لا يُغيث.

***

على كل حال لكلّ زمنٍ «عَوّ» يخافه الناس وتنحبس لذِكره أصواتُهم، ولكلّ «عَوّ» أيضًا نهاية أكيدة، لا يدوم خوف إلى ما لا نهاية ولا يظل الأطفال مؤمنون بأنهم ضعاف مغلوبون على أمرهم.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات