سهرتى مع ملحم - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 6:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سهرتى مع ملحم

نشر فى : الأربعاء 2 نوفمبر 2016 - 11:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 2 نوفمبر 2016 - 11:00 م

تعود إلى بيتك بعد يوم طويل قضيت جزءا منه فى العمل وجزءا مع الأصدقاء. شوارع المدينة تبدو لك أوسع بعد أن خف فيها عدد السيارات، تفتح الشباك لأن الجو يبدو لك معقولا، تضغط على زر الراديو فى السيارة وأنت تفكر فى أمور تريد أن تحلها فى اليوم التالى، وبينما تفرز فى عقلك لوائح لما يجب عليك أن تعمله تشعر بيد تلتف حول عنقك. تحاول أن تغنى مع الراديو فتخرج كلمات أغنية لم تدندنها من قبل لكنك تحفظها عن ظهر قلب، فها أنت لا تتردد بين شطر منها وآخر بينما اليد المجهولة تواصل ضغطها على رقبتك.
لست وحدك فى العتمة داخل السيارة، فقد ظهرت فجأة مجموعة من الناس بعضهم تراهم دوما، وبعضهم لا تعرف عنهم شيئا منذ سنوات رغم أنك تصادف صورهم أحيانا على شبكات التواصل الاجتماعى. ترفع صوت الراديو ويجاريه صوت دندنتك فتصرخ الكلمات بدل أن تغنيها كما كنت تفعل حين كنت مراهقا تسرق السيارة لتدور بها فى الحى وصوت الموسيقى العالى يلعلع منها، هم يغنون معك.
شعور غريب يجتاحك، فيه رغبة فى البكاء دون أن تنهمر دموعك، وفيه كم هائل من الحزن دون أن تحدد مصدره أو هدفه. لو سألك أحدهم ما بك؟ لن تعرف بم تجيبه، فتواصل الغناء بينما تلتهم السيارة الشوارع الخالية.

***
لم يخطر ببالى أن أستمع إلى أغانى ملحم بركات من قبل، بمعنى أننى لم أبحث قط فى أرشيف الموسيقى فى بيتى أو على الإنترنت عن أغانيه لأستمع إليها، بعكس علاقتى مع أنواع أخرى من الموسيقى التى أتعمد أن تكون موجودة فى محيطى. لكن حين ينبعث صوت ملحم من الراديو فى مدينة تعيش فيها ولا يذكرك شىء فيها بملحم بركات، تنهال عليك سنوات من الذكريات والمناسبات والسهرات والصباحات كان الراديو فيها يبث المنوعات فى البيت وفى السيارة وعند البقال. يا لهول الصور التى سقطت على رأسى من فوق، وكأن أحدهم قلب علبة كان قد رمى فيها كمية كبيرة من الصور لطالما وعد نفسه أنه سيرتبها يوما ما فى ألبومات ولم يفعل. تساقطت الصور على رأسى كورق شجر فى يوم خريفى ألوانه مختلفة فبعضها بالأبيض والأسود، وبعضها ألوانها باهتة من طول الحفظ، وأخرى ألوانها أكثر وضوحا لأن عمرها عدة سنوات فقط.
هناك لحظات تجتاح فيها العاطفة العقل، تتسرب فيها ضحكات قديمة إلى أماكن فى قلبى كنت قد أقفلتها منذ سنوات. تظهر الوجوه فى السيارة، وتظهر معها رسائل كثيرة كتبتها لأصدقاء قدامى ثم محيتها قبل أن أرسلها، هناك تفاصيل قديمة تغافلنى دون استئذان، فأجد نفسى فى شوق حقيقى لذلك الشخص أو لتلك الصديقة. هل أرسل الرسالة؟ هل أذكرها بذلك اليوم الذى تعطلت فينا سيارتها فوقفنا ننتظر أن يساعدنا أحد المارين فى ذلك الشارع، ثم لم نعترف لأهلنا أننا ركبنا فى سيارة شخص عرض أن يوصلنا إلى مكان تصليح السيارات؟

***
قالت لى صديقة تربطها علاقة وثيقة بسوريا بلدا وثقافة، أنها تشعر أن السوريين ما زالوا يحتفظون بشنط السفر جاهزة خلف الباب، وتقصد طبعا بتعبير مجازى أن الكثير ممن تقابلهم من السوريين لم يتقبلوا بعد فكرة شتاتهم رغم الصور الفظيعة التى تطل عليهم عبر الشاشات المختلفة كل يوم. استوقفنى تشبيهها، فتخيلت شنطة سفر جلدية من الطراز القديم أطرافها مهترئة وتغلق بحزامين بأقفال معدنية، الشنطة منفوخة من ثقل ما بداخلها من قصص حملناها معنا لنفردها فى بيوتنا الجديدة، ثم غيرنا رأينا فتركناها داخل الحقيبة، ووضعنا الحقيبة خلف الباب كمن يجهز نفسه إما للسفر أو للعيش دون تفاصيله القديمة. قد يكون فرش تفاصيل جديدة لا تمت لحياتنا بصلة أسهل من خلط الجديد بالقديم. فمن ذا الذى يريد أن يشرب القهوة كل صباح فى ذلك الفنجان الذى طبعت عليه صورة صديقين أعطيانا إياه كهدية يوم زواجهما؟ فى ذلك العرس تحديدا رقص الصديقان على نغمات «ولا مرة سهرنا سوا» لملحم بركات وتساءلت وقتها عن اختيارهم لتلك الأغنية.

***
كم هى معقدة علاقاتنا بالأشخاص والأماكن، وكم هى تلقائية لحظات الشوق التى تتملكنا أحيانا فلا نعود نرى سوى وجه ذلك الصديق الذى كان صديقا للعائلة كلها. ما زال رقم هاتفه مخزنا فى ذاكرة هاتفى القديم، مع أرقام كثيرة لأصدقاء سابقين أتساءل أحيانا ماذا حل بهم. قال أحد الفلاسفة يوما أننا نولد وعقلنا كاللوحة الخاوية، أى أنه خال من الأفكار المسبقة التى تحكم فيما بعد قدرتنا على محاكمة الأمور، وقد استعار منه الكثيرون تلك العبارة فى محاولة إخلاء عقلهم من الأحكام حين يواجهون شيئا جديدا. أتساءل كثيرا هل نجحت فى إخلاء قلبى من أشخاص احتلوا أجزاء منه فى أوقات فاتت لكننى أشتاق لهم أحيانا، إنما أرانى أكمل حياتى دون التواصل معهم؟ هل أعزيهم بوفاة والدتهم؟ هل أشرب معهم فنجانا من القهوة مع اتفاق ضمنى لم نتفوه به أننا لن نتكلم فى السياسة؟
تصل إلى البيت، تطفئ الراديو، ثم تطفئ محرك السيارة، وتمشى فى ليل مدينتك الجديدة بعد أن اختفى من رافقوك فى طريق عودتك. فى رأسك ما زالت كلمات «سلم عليها يا هوى..». تماشى إيقاع خطواتك، لكنك وحدك واليد المجهولة ما زالت تقبض على عنقك.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات