«حضرة المجرم».. نجيب محفوظ! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 9:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«حضرة المجرم».. نجيب محفوظ!

نشر فى : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 10:00 م
فصل جديد من فصول الاستهزاء والاستخفاف بقيمة إبداعية كبرى بقيمة نجيب محفوظ! لا بأس. حدث ذلك سابقا، ويحدث الآن، وسيحدث لاحقا، ما دامت قيم الانغلاق وضحالة الثقافة وبؤس التعليم وشيوع الجهل كالمرض هى السائدة فى زمننا الأغبر هذا.

لا بأس أن نعيد القول ونكرره، ونشرح ونزيد فى بديهيات أو أمور استقر العقل والمنطق على اتساق مبادئها وسلامة مقولاتها، ومع ذلك فإنها تكاد تكون غائبة بالكلية عن سلوكنا العام ومجالنا العام وثقافتنا العامة!

لا بد أن نعترف بأن ثقافتنا العامة، فى مجملها، قائمة على «السماع» وعلى «النقل» لا على «النظر» و«المعاينة» و«القراءة» و«التحرى»، ولأننا لم نتربَ تربية «نقدية» عقلانية، قائمة على أبسط قواعد التفكير العلمى (والعلمى هنا تعنى بشكل تقريبى المنهجى أو المنطقى أو المتسق نظريا ولا بمعنى العلوم الطبيعية البحتة كالفيزياء والكيمياء.. إلخ).

لهذا لم يعد مثيرا للدهشة ولا الاستغراب أن تجد من يتباهى بحصوله على الدكتوراه، مثلا، فى القانون أو الآداب أو العلوم أو أيا ما كان تخصصه، وهو على الحقيقة أجهل من دابة، عقله معطل عن العمل، يغرق فى سبات من الكسل العقلى اللذيذ مقتنعا بأنه «شىء كبير»، ولا يدرك ولا يعى ممكنات التفكير البشرى وقدراته التى لا تحد فى القراءة والفهم، فى طرح السؤال والبحث عن إجابة، فى التحقق والتدقيق والتوثيق.. إلخ تلك الأمور التى تَسِم المجتمعات المتحضرة وتشيع فيها كما الأكل والشرب والنفس.

لعل تلك المقدمة القصيرة تصلح للحديث عن «الفضيحة» التى شهدها البرلمان المصرى الأسبوع الماضى، ولن نكرر هنا ذكر الواقعة بتفاصيلها، فقد صار النائب المفضال الذى طالب بعقاب «حضرة المجرم» نجيب محفوظ بتهمة «خدش الحياء العام» أشهر من كاسترو الزعيم الكوبى الذى توفى فى ذات التوقيت!

لا بأس أن نحلل قليلا ما قاله النائب المفضال، لِنرى ونحكمَ بأنفسنا كيف وصلنا إلى هذا المستوى من المزايدة والتزيد والتنفج بجهل والاعتداد بالغفلة فى ظل مناخ عام ينتصر للتفاهة ويعلى من شأن الركاكة والأصوات الجوفاء، مناخ عام غير مسبوق يهدد كل قيمة إيجابية ويكرس لأفكار وقيم جاهدت مصر طوال تاريخها ــ عبر قوتها الناعمة ورموزها الفكرية والإبداعية والثقافية ــ فى مقاومتها وإزاحتها من الطريق كى ننطلق ونلحق بالأمم والمجتمعات التى تجاوزت فقرها المعرفى وجهلها الثقافى وصارت «أمما تقرأ وتفهم وتعى»!

ببساطة ومما قاله حضرة النائب المحترم فى حق نجيب محفوظ: «أيوه السكرية وقصر الشوق فيهم خدش حياء، ونجيب محفوط يستحق العقاب، لكن أحدا وقتها لم يحرك الدعوى الجنائية».. نكتشف أن حضرة النائب المحترم قد تورط فى قول يؤخذ عليه، ويظهر منه أنه لم يقرأ محفوظ ولا يعرفه إلا من شاشة التليفزيون وربما لم يشاهد ــ حتى ــ أفلامه كاملة.. ولم يلصق بذاكرته ويترسب فى وعيه إلا ما يظنه أنه مَشاهد رقص ودعارة وانحلال بحسب حيائه المخدوش!

فى الحقيقة، ومن جملة واحدة فقط، يمكنك أن تتأكد أن الرجل لا يعرف نجيب محفوظ فعلا لا مجازا، ولم يقرأ له حرفا أو سطرا (أتحدى أن يكون قد سمع عن «الحرافيش» أو قرأ «ليالى ألف ليلة» أو سمع برواية اسمها «الشحاذ» أو عرف مجموعة قصصية اسمها «دنيا الله» أو «تحت المظلة» أو غيرها من بين 57 كتابا أبدعها محفوظ طوال مشواره المثمر).

لكن «حضرة النائب المحترم» فى غمرة انفعاله و«حماسه الانخداشى الكبير» قد اندفع بل تورط فى هذا القول المسىء (نعم المسىء، ليس لنجيب محفوظ الحقيقة، فهو أكبر من إساءة تافهة فى ظرف مهين، لكنه مسىء للثقافة المصرية والإبداع المصرى بلا شك).. اندفع حضرة النائب المحترم فى ظل حالة عارمة تلبسته للدفاع عن القانون الذى يحبس من يخدشون الحياء ــ حسبما يرى ــ ومعترضا على تعديلات اقترحها نواب آخرون لتعديله.

الحقيقة أننى مشفق على الرجل الذى ــ للأسف الشديد ــ كتبت له شهرة قد يراها هو «مفيدة»، إنما على الحقيقة صار مادة ومثالا ونموذجا معياريا ممتازا للباحثين فى حقول علم اجتماع المعرفة وسوسيولوجيا الثقافة والفكر لدراسة ما آلت إليه الأمور فى مصر نتيجة انحدار التعليم وتراجع قيم التنوير والبحث وإشاعة الفكر الحر القائم على النظر والمقارنة والاحتراز فى القول إلا بعد تثبت ومعرفة.

وأكاد لا أشك فى أن حضرة النائب المحترم، الآن، يتعجب ويضرب كفا بكف من الجدل المثار حوله.. وستجده يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا يهاجمنى هؤلاء المجانين.. ألم يخدش نجيب محفوظ الحياء فعلا؟!