مالَ السائقُ مُشيرًا بيدِه وهو يقول: نَسرِق المَلفّ من هنا أحسن. كان قد انتوى السيرَ عكس اتجاه المرور الطبيعي؛ قاطعًا مسافة قصيرة تعفيه من قرابة نصف الكيلومتر كي يدورَ من الاتجاه الصحيح. السرقةُ هنا قد تُقابَل بعقوبةٍ فوريةٍ إن ضبطته دوريةُ مُرور؛ لكن متاهاتِ اللامعقول، إضافة لانحدارِ الأحوال، يسوِّغان المُخاطرةَ من أجل توفير الفتات.
• • •
سَرَقَ في معاجم اللغة العربية بمعنى حاز ما ليس له خفية وبطريق غير مشروعة، السارق هو الفاعل والمسروق هو ما وقع عليه الفعل، أما السرقة فالمرة الواحدة، ولعلها تكون الأولى والأخيرة.
• • •
في زمن مضى كان الحرامي يسرق الغسيل مِن على الحبال الممدودة، وربما الإطارات الكاوتشوك من السيارة، وقد تطور الأمر إلى سرقة غطاء البلاعة وقضبان السكة الحديد، ثم تقدَّمت الحياة بنا وباتت السرقات أكثر تعقيدًا؛ فثمة متخصصون يمكنهم السطو على حسابات البنوك، وقد يستولون على معلومات البطاقات الإلكترونية الخاصة وهم جلوس في أماكنهم، فيفرغون ما بها من أموال. تلقيت مكالمات متعاقبة من مجهول في جزر هايتي، لم أرد عليها مطلقًا إذ عددتها خطأ من المتصل، ثم إذا بصديقة تحذرني من احتمالات قرصنة وشيكة على الهاتف ما إن أقبل المكالمة.
• • •
ليست السرقةُ دومًا مادية، فقد تسرِقُ امرأةٌ قلبَ رَجُلٍ والعكس صحيح، وقد يَسرِق العاملُ دقائقَ مِن الراحةِ ويختلس غفوةً عزيزةَ المَنال، وربما يسرقُ المَرءُ النظرَ إلى ما ليس مِن شأنه، ولا تغيبُ عن الذِّهن أغنيةُ ”يا سارق من عيني النوم“، التي أدتها الفنانةُ القديرة شادية في فيلم ”أقوى من الحُبِّ“ الذي أُنتِج مُنتصَف الخمسينيات تقريبًا، وقد وضع اللحن المُبدع مُنير مُراد، وهي في ظنّي من أخفِّ الأغاني وأكثرها مرحًا.
• • •
إذا قيل سَرَق فلان الأضواءَ فالمعنى أنه استأثر بالانتباه وحَجَبَه عن الآخرين؛ ربما مِن خلالِ مَظهرٍ لافت أو فِعلٍ فاضحٍ أو حتى عَمَل جليل. اعتاد بعضُ الناسِ أن يكونوا مَحَطَّ الاهتمام؛ فإن تولّى عنهم وتوجَّه إلى غيرهم؛ افترستهم الغِيرةُ واستبدَّ بهم الغضبُ، وربما سلكوا مسارًا عدوانيًا إلى أن يعودوا إلى بؤرة التركيز.
• • •
في فيلم سارقِ الفرح للعظيم داوود عبد السيد، والذي عُرِضَ بمُنتصَف التسعينيات، يُصادِف المُشاهِد سَرِقاتٍ مادية صغيرة وأخرى مَعنوية كُبرى. البطلان يُسعيان إلى تدبيرَ نفقاتِ زواجِهما بشتَّى الوسائل، وثمَّة مَن يظهر في المَشهد ليُعرقِل طريقَهما، وفيما يحاولان سَرقةَ فرحتهما الخاصة يَسرِق هو منهما ما بنيا من أحلام.
• • •
تقول الأمثولةُ الشعبيَّةُ البديعة: إن سَرقت اسرق جَمَل، والقصد أن السرقةَ واحدةٌ، وأن المبدأ لا يتغيَّر بتغيُّر الحَجمِ أو الكَمِّ، فإن استحلَّ الفاعلُ فعلتَه؛ فليجعل النتيجةَ مُستحقّة، وإن كان الذنبُ مُرتكَبًا لا مَحالة، فليكُن فيما ثقلَ وزنه وعظمت قيمته. الشطرُ الثاني من الأمثولةِ يقول: وإن عَشقت اعشق قَمَر، والقافيةُ هنا مَعيوبةٌ؛ فحرفُ لامٍ تليه راءٌ؛ إنما يغفرُ للقائلِ هفوتَه ما في المعنى مِن صِدقٍ وواقعية.
• • •
انتشر السطوُ على حقوقِ المِلكيةِ الفِكريةِ ومثلِه ذاعت السرقاتُ العِلمية، ولم يعُد كثيرُها مَشجوبًا. لا أزال أذكر دراسةً مُتخصِّصةً انضمَمتُ إلى طلابها، ولما كانت أهدافي علميةً بحتةً، فقد انكببتُ على المُحاضراتِ لا أترك منها واحدةً، واجتهدت في تقديمِ الأبحاث المَطلوبة، ثم اكتشفت بمحضِ الصدفةِ أنني الوحيدةُ تقريبًا التي لا تستخدم الشبكة الإلكترونية في تحميل أبحاثٍ أعدَّها آخرون، وأن غالبَ الزملاءِ والزميلاتِ يفعلون؛ فيمحون اسمَ الباحثِ الأصليِّ ويضعون أسماءَهم مكانه، والأدهى أن كثيرَ الأساتذةِ المُحاضرين يعلمون بما يجري، وأن الحياةَ تسير بنا جميعًا دونَ ضغائن.
• • •
يُكنَى ارتفاعُ ضَغطِ العَين بأنه سارقُ البَصرِ الصامت، فالمُصاب لا يدري بعلَّتِه إلا عند حدوثِ المُضاعفات القاسية. سبَبُ الصَّمتِ أن العينين تتأقلمان على التصاعُد التدريجيِّ للضَغط، وتمتنعان عن الشكوى، ويتجاهل المرءُ الأعراضَ البسيطةَ التي قد تعبر به ولا يعطيها أهميةً، وفي لحظةٍ حاسمةٍ يكتشفُ أن العَصَبَ قد ضَمَر وأن النظرَ قد تضاءلَ أو تلاشى وانتهى.
• • •
إذا اشتهر شخصٌ بمهارةٍ فائقةٍ في النَّصبِ والخِداع، وبالقُدرةِ على استلابِ ما للآخرين، وُصِفَ بأنه "يَسرق الكُحلَ مِن العَين"، والمعنى أنه مَهما بلغ الأمرُ من صُعوبةٍ، ومهمًا كان المَسروق لصيقًا بصاحبِه؛ فخفةٌ ودهاءٌ وباعٌ في الإقناع، لمُواصَفات تُهدي السارقَ نجاحًا تلو نجاح.
• • •
في فيلم ”لصوص لكن ظرفاء“ تعاطف المشاهدون مُعظمُهم وأنا منهم، مع اللِّصَين الطريفين أحمد مظهر وعادل إمام. توالت العراقيلُ أمامهما وتراكمت الإخفاقاتُ، وانبثقت الضحكاتُ رغم أن النهايةَ لم تكُن سعيدة؛ لكنها مُتعة الفنِّ الخالصةِ والمُفارقاتِ المُبهِجة والبالِ الصافي من الهُموم.
• • •
في الآونةِ الأخيرة اكتسبت بعضُ المفاهيمِ تعريفاتٍ جَديدَة لا علاقة لها بالمعاجِم والقواميس، فلم يعُد المَلفوظُ دليلًا على المُحتوى أو المَضمُون، والحالُ أن سَرِقاتٍ عدَّة تجري تحت الأعين وعلى مَسمَع من الآذان؛ لكنها تَستَتِر بأسماءٍ مُتنوِّعة وتتوارى خلف تعبيراتٍ لا تشي بحقيقتها، ولا عجب إذًا إن مرَّت بنا مُرور الكرام.