«نداهة المنيل».. الذاكرة تقاوم الشتات! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 8:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نداهة المنيل».. الذاكرة تقاوم الشتات!

نشر فى : السبت 2 ديسمبر 2023 - 10:10 م | آخر تحديث : السبت 2 ديسمبر 2023 - 10:10 م
ــ 1 ــ
فى الوقت الذى كنت قررت فيه أن نلتقط أنفاسنا قليلا، ونحصل على هدنة ولو مؤقتة من أجواء الحرب ورائحة الدم الخانقة، وتمجيد المقاومة (على مدى أسابيع منذ اندلاع الأحداث فى فلسطين بعد السابع من أكتوبر ونحن نستقصى أشكالا وصورا للمقاومة وحضورها على مستويات إبداعية ونقدية وفكرية متباينة)، ما كادت الأيام الأربعة أو الخمسة تنتهى حتى عاودت طائرات جيش الاحتلال التحليق بشراسة فوق غزة، واستأنفت قصفها الوحشى على القطاع، وما زال مجرمو الحرب يبحثون عن المزيد من الجرائم والضحايا والإبادات الممنهجة، ومزيد من سفك الدماء والانتقام من الأطفال والنساء والشيوخ!
والتاريخ لن يرحم أحدا، أبدا!
ــ 2 ــ
ولا نملك سوى أن نمجد «المقاومة» بمفهومها الإنسانى الرحب، أن نتشبث بالحياة وندافع عنها، وندافع عن حق أصحاب الحق وألا نستكين لليأس والإحباط أبدا، وأن يقاوم كل إنسان بالكيفية التى يستطيعها، بالقراءة حينا، بالكلمة حينا آخر، وبالإشارة إلى مواطن الجمال فى مواجهة القبح أحيانا أخرى.
فى أيام الهدنة المنقضية، وفرارا من كل ما أرهق الروح وأثقل النفس وأوجع القلب، اختلسنا بعض الوقت بصحبة مجموعة قصصية أقل ما توصف به أنها رائعة وعذبة، قصصها الفاتنة تأخذ قارئها بكل سلاسة ونعومة إلى أجوائها الشعورية الفياضة، وفضاءاتها المكانية العبقة بالتاريخ والتراث والماضى القريب، وأطرها الزمنية فى العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، فضلا على شخوصها التى تمثلنا ونتفاعل معها ونستجيب لها، نتعاطف ونغضب وننفعل ونرثى.. إلخ، إنهم بشر مثلنا ليسوا أخيارا بإطلاق ولا أشرارا بإطلاق، إنهم بين ذلك عوان!
بشر فيهم تلك المساحات الملتبسة والتقاطعات الغائمة بين ما كان وما هو كائن، بين إحساس مفقود وتذكر مقصود! بين ماض قديم وحاضر حزين.. إلخ!
ــ 3 ــ
تثبت هذه المجموعة القصصية «نداهة المنيل»، الصادرة عن بيت الحكمة بالقاهرة، للكاتبة الواعدة تاميران محمود أن فن القصة القصيرة لم يفتر كما توهم البعض، ولم يغب عن مشهد الإبداع السردى المعاصر (كما يدعى البعض أيضا!) بل يشهد انتعاشا ووعيا ناضجا بجمالية هذا الفن الصعب الذى يكاد يقترب من الشعر فى مجازه ورمزيته وإيحاءاته!
الحقيقة أن «نداهة المنيل» فاجأتنى بفنيتها العالية، ولغتها القادرة على إبراز التفاصيل الدقيقة كأنها تلوذ بها من بطش الوحدة والغربة والاغتراب، وفاجأتنى كذلك بقدرة كاتبتها على التقاط الجوهرى والنافذ فى كل ما أرادت أن تجسده من أفكار ومعان تكاد تتمحور حول لحظات الانتقال المفصلية فى حياة الإنسان.. الانتقال من حالة شعورية إلى نقيضها، من مكان إلى مكان، من وضعية اجتماعية إلى أخرى أدنى أو أعلى، من نمط حياة تقليدى إلى آخر حديث بل متسارع الحداثة.. إلخ.
والأهم من كل ذلك كما أشرت هو مواجهة الذات لغربتها واغترابها وإحباطها بالالتجاء إلى كل ما يشعرها بالحنو والدفء المفتقد، مع استحضار أجواء النوستالجيا الحميمة التى صارت سمة حاضرة بقوة فى كتابات هذا الجيل (من مواليد النصف الثانى من السبعينيات، ومواليد الثمانينيات والتسعينيات، وحتى مطالع الألفية الثالثة)، ومراجعة بسيطة لعناوين القصص التى تضمها المجموعة تدلك على ما أقول.
وفى كل ذلك تبرز مقدرة القاصة وبراعتها فى السرد القصصى وتحكمها فى خيوط هذا السرد لا تفلتها، وقدرتها على رسم الشخوص الحية وهى نماذج بشرية مكتملة الحضور والمشاعر والاضطراب أيضا، وتوتراتها وتناقضاتها تمثل أبلغ تمثيل هذا الجيل الذى انكوى بتحولات الثمانينيات والتسعينيات العجيبة والغريبة والمريبة!
ــ 4 ــ
اثنان وعشرون قصة «مصرية» بمذاق القهوة التى تفوح رائحتها على نار هادئة فتعبق المكان برائحتها المحببة الفاتنة! قصص تستحضر أجواء وعلامات ومفردات مصرية كنا حتى وقت قريب نعايشها وتشكل جزءا من حياتنا اليومية، وإذ بنا فجأة وبدون مقدمات ولا إنذار نفتقدها! لقد اختفت وغابت للأبد! فأين «الكستور» الذى عرفه المصريون وكان يشكل عنصرا أساسيا من عناصر حياة الطبقة الوسطى التى تلقت كل الضربات وهى صابرة!
أين تجمعات الأسرة المصرية الحميمة التى كانت تشكل ملمحا أصيلا من ملامح المجتمع المصرى فيما قبل عصر الفضائيات والإنترنت والسوشيال ميديا! جاء التطور التكنولوجى ليسهل سبل الحياة والانتقال والاتصال وفى الوقت ذاته عمق العزلة الفردية والاغتراب الذاتى، وقضى على أى شكل من أشكال التجمع الأسرى والعائلى الحميم (لا أقول إنها اختفت بالكلية وإنما ما بقى منها أصبح الاستثناء الذى يؤكد القاعدة التى آلت إليها الأمور ولا ينفيها أبدا). تلوذ الكاتبة الموهوبة بمنجم المصريين الذى لا ينضب، المأثور الشفاهى من القصص والحكايات والحواديت، تواجه الغربة والتشتت والتشرذم والتهميش والإحساس بالضياع بإنشاء عوالم مستعادة لا تقصد محاكاة ما كان بقدر ما تقصد إلى خلق آليات دفاعية تقلل من حدة اندفاع العصر وسيولته المزعجة والتدفق اللا نهائى للمعلومات، فى الوقت الذى تغيب فيه آليات المعرفة ويضمر الفكر ويتيه التأمل، وهذا ما حاولت القصص أن تحييه وأن تتشبث به، عن طريق إحياء الأسطورة واستحضار الفولكلور والدق على وتر المخزون الشعبى الفائض الذى ما زلت أرى ــ من وجهة نظرى ــ أنه كنز الإبداع الحقيقى والأصيل لإنتاج أدب معاصر له خصوصيته وأصالته، وفى الوقت ذاته لا يغيب عنه الحس الإنسانى ولا النزوع الشعورى الذى يظلل كل البشر فى كل مكان، وأيا ما كانت ثقافتهم ولغتهم وتصوراتهم بمظلته الحانية.
ــ 5 ــ
تستحق هذه المجموعة قراءة أخرى بل قراءات متجددة، وأظن أنها ستكون حديث القراء والنقاد على السواء الفترة المقبلة.. كل التقدير للكاتبة الواعدة المدهشة، وكل التحية لبيت الحكمة التى تطل بقوة وثقة على مشهد النشر المصرى والعربى وتخطو بهدوء وتأن لتحتل مكانها فى طليعة دور النشر المصرية والعربية.