عيد ميلاد سعيد. التهنئة الشهيرة التى تتكرر فى مواعيد ثابتة من كل عام بين أقرباء، وأصدقاء، وزملاء وزميلات، يتبادلونها مشاركة وودا، وأحيانا مجرد اعتياد أو مجاملة. فى أيام ماضية كنت ومجموعة من الأصدقاء والصديقات ندوّن تواريخ أعياد ميلاد بعِنا البعض فى كراس خاص أو مفكرة أو حتى على غلاف كتاب، وفى بعض الأحيان كنا نحتفظ بالتواريخ على قصاصات ورقية، تهترئ بمرور الوقت بسبب حصِنا على مراجعتها بصورة دورية، حتى لا نسهو وتفوتنا المناسبة عن غير قصد.
•••
حدث بعض مرات أن قررنا الجمع بين عدة مناسبات وإقامة احتفال واحد كبير، كما حدث أن نسى أحدنا مناسبة أو أخرى، وحدث أيضا أن كان بيننا من هو فى حال خصام فادعى النسيان. تسبب ضياع القصاصات مرات فى مواقف محرجة لبعضنا، لكنه كذلك كفى آخرين شر الإحراج بجعله عذرا للغياب، مدعوما بعبارات تنعى تراجع الذاكرة وتلعن كثرة الانشغال.
اختلف الوضع هذه الأيام. تظهر مفكرة بأعياد الميلاد على بعض مواقع التواصل الاجتماعى وبجانبها علبة هدايا حمراء، مغلفة ومربوطة بشريط أنيق. يراها فى الأغلب جميع المشتركين، وتصبح أمامهم اختيارات متعددة للتفاعل؛ الكتابة على الحائط، إرسال تهنئة شخصية غير معلنة للآخرين، لصق صورة طريفة أو دالة على المناسبة وعليها إهداء. لم يعد التجاهل اختيارا ملائما، إلا إذا كان يشكل فى حد ذاته رسالة؛ عتاب أو ضيق أو غضب، وربما إعادة ترسيم للحدود. هؤلاء الذين لا يطالعون المفكرة بانتظام لن يجدوا عذرا مناسبا، وتقاعسهم عن المتابعة ليس بحجة مقبولة فى معظم الأحوال، إذ لن تغنيهم شر اللوم.
•••
أظن إن الإعلان التلقائى المتواصل عن أعياد الميلاد على مواقع التواصل الاجتماعى، يجعلُ الآخرين فى خجل من عدم إرسال التهانى، وربما يجبرهم على المشاركة فى الاحتفالية بشكل أو بآخر، فإذا كتبوا؛ طاردهم الحرج من قصر العبارة، وإذا طالت؛ خجلوا من عدم إرسال صورة؛ يتبارى المتواصلون فتظهر البلالين، كما تظهر الحلويات والفطائر والشموع، وربما تظهر قلوب لامعة وابتسامات.
غالبا ما يقضى صاحب الاحتفالية وقتا كبيرا فى الرد على المجاملين، وأعرف من يحزن إن لم يصله عدد كبير من التهانى، أعرف أيضا من يكتب منوها ومنبها إلى قرب حلول المناسبة، ويطلب من الآخرين تهنئته، يصوغ طلبه فى خفة وظرف بما قد يجلب له بالفعل عشرات ومئات المهنئين، لكن طلبه هذا، ورغم إمارات السعادة وأجواء البهجة التى تحيط به، قد يعكس من زاوية أخرى خوفا وقلقا عميقين من ألا يحصل على كم المؤازرة الذى يرضيه، وألا يحصد دلائل المحبة والإعجاب، ودفء الشعور بالاهتمام، ومن ثم فهو يستبق مشاعر الإحباط المحتملة، عن طريق حث الناس على إظهار وجودهم فى (صفحة) حياته ومشاركته الاحتفال، فإذا نجحت المحاولة كانت الصورة الكاملة، ولا شىء آخر يهم.
•••
يمثل اليومان اللذان ولد فيهما النبيان؛ عيسى ومحمد، أضخم احتفالين، تتشارك فيهما أعداد من البشر، هى الأكبر بين جميع احتفالات الميلاد على وجِ الأرض. بدورها تأتى موالد الصالحين، والأتقياء ومن فى حكمهم، لتضم أشخاصا كثرا، غرباء، قد لا تجمع بينهم سوى الرغبة فى الاحتفال والاحتفاء، بما تحمله من نوايا ومآرب يدركها المتمرسون. اكتسبت كلمة (مولد) ــ التى صرنا ننطقها بضم الميم بدلا من فتحها منذ فترة طويلة ــ معنى ووقعا مدهشا فى ثقافتنا؛ أصبح المولد مرادفا للصخب والحلوى، وألعاب الحواة والأراجيح، والذكر والإنشاد، وأحيانا الحشيش وما على شاكلته وأثره، وأهم المعانى التى استقرت فى أذهان جماعة الموظفين الحكوميين؛ إنه يوم يباح فيه تعطيل العمل، وانتحال أمارات التقوى والخشوع.
يحتفل الناس فى الغرب بيوم الميلاد Birthday، أما لدينا فإنه (عيد) ميلاد. ألحظ وربما يلحظ الكثيرون، إن هذا الاحتفاء اللفظى بالحياة وتجددها عاما بعد عام، لا يبدو مترجما فى تفاصيل الساعات والأيام والفصول. أحيانا ما لا تعكس المبالغة إلا نقيض المراد من وارئها.