رائحة المطر - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رائحة المطر

نشر فى : الثلاثاء 3 يناير 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 يناير 2017 - 9:10 م
كنا قد انتهينا من جلسة ضمت متخصصين فى شئون النفط والسياسة والاعلام. كان موضوعنا مستقبل الاعلام العربى على ضوء الطفرة المالية التى أثمرتها حرب مصر وسوريا ضد إسرائيل. عبرنا الطريق من الفندق حيث اقامتنا وموقع جلستنا إلى بركة البط فى حديقة هايد بارك. اخترنا دكة خشبية لنجلس ونستكمل حديثا كنا بدأناه على مائدة الغذاء. أشعلنا سيجارتينا ونفثنا من صدرينا دخانا بدا لى أشد كثافة من المعتاد، عقبت عليه قائلا إنها رطوبة الهواء اللندنى المشهورة التى تعشق الاحتفاظ لبرهة بكل ذرة من بخار أو أنفاس أو دخان. دار الحديث شيقا وممتعا بينما كانت بقايا الشمس تنسحب من فضاء البحيرة لتختفى فى دلال وبتردد وملاعبة بين أغصان أشجار تفصل البحيرة عن الحديقة الشاسعة. لم أنتبه إلا حين نبهتنى لحبة ماء سقطت على ذراعى ثم انتبهت أنا نفسى بعد لحظة ونبهتها إلى الحبة الثانية التى كانت من نصيبها. استمر المطر مترفقا بنا يتساقط رذاذا قطرة ثم قطرة والحديث بيننا ما يزال شيقا وممتعا. سكتت فى وسط جملة وبسطت يدها وكأنها تشجع المطر ليسقط حباته فوقها دون غيرها من الأشياء المسطحة. نجحت. رأيت فى تجويف كفها بحيرة صغيرة تتكون ونظرت إليها مستفسرا. استدارت برأسها ناحيتى وعيناها تكتسيان بسحابة حزن ناعم وسؤال يصدر مفاجئا بصوت ثابت وواثق، هل للمطر رائحة؟.

***

قابلت فى حياتى أناسا ولدوا فاقدين لحاسة الشم وآخرين فقدوها نتيجة حوادث أو عمليات جراحية أو أمراض معروفة أو مع ما فقدوه متدرجا من حواس أخرى عندما اجتازوا مراحل العمر الحقيقى ودخلوا مرحلة العمر الافتراضى. كان لكل منهم تجارب بعضها مؤلم وحكايات بعضها مسلٍ أو محرض على التعاطف أو مثير علميا. كثيرون من غير فاقدى حاسة الشم يستهينون بهذه الحاسة عند مقارنتها بغيرها من الحواس. هؤلاء لم يدركوا بعد أن هذه الحاسة وليس أى حاسة أخرى هى التى أنقذت أرواحا ومبانى وثروات كانت ستقضى أو يصيبها الدمار لو لم تطلق الانذار مبكرا. هى الحاسة التى تنقذنا من الاختناق بالغاز إن تركنا صنابيره مفتوحة ومن الحريق إن لم نتأكد من أبعاد شرارات النار عن المواد القابلة للاحتراق. تنقذنا من تناول الطعام الفاسد وتنبهنا حين نتجاوز الحد المناسب فى الأكل وحين نقترب من الحد المناسب فى الجوع. حاسة الشم هى الانذار الأول الذى ابتكرته الطبيعة للحماية المبكرة والاستباقية ضد أخطار عديدة.

***

لم أعرف، إلا قريبا جدا، أننا مثل حيوانات كثيرة نشم الخوف عن بعد. لم نفهم ونحن صغار نصيحة الأهل والمدربين فى فريق الكشافة عندما كانوا يحذروننا من التصرف بخوف أمام كلاب الحراسة أو الذئاب. الكلاب تشم الخوف قبل أن تراه ولا تطمئن إلى الخائف أو تثق فى نواياه تجاهها. اتضح لى بالقراءة والسؤال أننا كالكلاب نشم الخوف ولا نطمئن إلى الانسان الخائف وقد لا نثق فى نواياه. أنا شخصيا لم أطمئن لطفل خائف وبالتأكيد كان لا يمكن الوثوق فيما يمكن أن يقدم عليه وهو خائف. يقال لى الآن إن حاسة الشم كانت فى مقدمة حواس أخرى أو وحدها أثارت عندى الوعى بأن الطفل خائف. هذه الحاسة نفسها هى التى تثير أو تنشط الوعى بالقرف. رائحة معينة تدفعنا للابتعاد عن مواقع مؤذية أو خطرة أو تؤذن بشر قادم. أذكر منذ الصغر أننا كنا نتنبأ بيوم قائظ فى القاهرة عندما نستيقظ فى الفجر على رائحة كريهة تنقلها نسمات الصباح خلال مرورها على حى المدابغ الواقع جنوب العاصمة. كانت الرائحة تنذر بقرب هبوب ريح جنوبية، وبخاصة خماسينية.

***

أغلبنا جرب مع الاصابة بالبرد تناول طعام لا طعم له فما لا نشمه لا نستطعمه. عرفت أخيرا أن العين أحيانا تشم فتعوض فى حالات استثنائية عن إعطال يصيب الأنف. الدموع التى تنهمر من عيوننا عند اقتراب البصل منها حتى فى حالات الانفلونزا الشديدة حين تتوقف تماما الأنف عن ممارسة وظيفة الشم دليل على أن العين تشم وترسل اشاراتها إلى المخ عن طريق قنواتها السرية. كثير أيضا ما يفلح مضغ أقراص النعناع الحاد فى النفاذ برائحته إلى المخ عن طريق قنوات خاصة مختفية عند الحلق.

أكثرنا، أو كلنا، يتمنى أحيانا لو تتوقف الأنف لبعض الوقت عن أداء وظيفة الشم. يحدث هذا ونحن فى المواصلات العامة أو قرب مقالب نفايات عند منحنيات شوارع فى كثير من مدن مصر. حدث أيضا عندما كنت أزور مدينة دلهى القديمة لتناول الدجاج المطمور لأيام فى التوابل والمشوى فى «التنور»، كانت دلهى بحق مدينة تموج أجواؤها بمئات أو ألوف الروائح تتنافس جميعها فى اللحظة الواحدة على الوصول إلى أنوفنا. قرأت قبل انتقالى إلى بكين ما كتبه المؤرخون الأوروبيون عن عاصمة الصين فى الاربعينيات من القرن الماضى عندما كانت المدينة التى يشم الزائرون رائحتها وهم لا يزالون على بعد عشرات الأميال. الغريب فى الأمر أننى وجدتها نظيفة عندما استضافتنى فى الخمسينيات، أى بعد أن تولى أمر نظافتها حكومة تؤمن بدور النظافة فى التنمية والتحضر. أذكر رغم ذلك أننى امتنعت عن حضور حفلات دار الأوبرا بسبب حرص الصينيين الشديد فى ذلك الوقت على مضغ الثوم طازجا أو مشويا.

***

تزعم احدى الشركات الأمريكية أن خبراءها توصلوا إلى أن الزيجات السعيدة مدينة بسعادتها إلى توافق رائحة جسدى الزوج والزوجة. بناء على هذا قامت الشركة بالترويج لنشاطها فى مجال تعريف النساء والرجال ببعضهما، أى قيامها بدور الخاطبة. تطلب من الرجال الراغبين فى الزواج ارتداء قمصان أو فانلات داخلية لمدد محددة يسلمونها بعد خلعها إلى الشركة التى تقوم بدورها بإرسالها إلى النساء الراغبات فى الزواج، تفعل العكس مع النساء. المرأة تشم العينة التى وصلتها وكذلك الرجل ويختار كل منهما القميص ذا الرائحة المفضلة. الشركة تنسق وتبلغ الطرفين صاحبى القميصين بالتفاصيل المناسبة عن الشخص الآخر ليتصلا مباشرة ببعضهما بعد أن تحصل على خمسة وثلاثين دولارا قيمة الخدمة التى قدمتها.

***

هل للمطر رائحة؟ تكرر السؤال بعد أن طال انتظارها لإجابة أو كلمة تأبى أن تخرج من فمى. فهمت أننى لن أجيب فتكلمت. قالت «صحيح ما تفكر فيه، أنا لا أملك حاسة الشم. فقدتها وأنا صغيرة ومعها فقدت حاسة التذوق إلا نادرا. أراك بدأت تحزن. لا تحزن فقد عودت نفسى على أن أتخيل رائحة الشىء عندما أتعرف على مكوناته. هل تعرف يا صديقى أننى أحلم بالليل بروائح الأشياء والناس. لن تصدق أننى أكاد لو سمحت لى أصف لك رائحة جسدك، أنسيت أنك أمسكت بيدى ونحن نعبر الطريق؟ من اللمس أستطيع أن أتخيل. أتعرف أننى كثيرا ما أدخل محال بيع الآيس كريم أقضى الوقت مع تجارب تذوق افتراضية مع أكثر من مائة نوع ورائحة ونكهة. أشعر أحيانا وأنا أمارس هذه الهواية أننى فى دار سينما تعرض فيلما من زمن الأبيض والأسود. دربت نفسى حتى كدت أفلح فى تصور روائح الزهور كتلك التى تفوح لك فى هذه الحديقة الجميلة. بل دعنى أخبرك عن نفسى بما لن أتفوه به أمام رجل آخر. أدخل إلى حمام بيتى وقد اصطفت فيه زجاجات الصابون السائل والشامبو وعلب الكريمات وزجاجات العطر أستعملها وأرش منها وأنا لا أ شمها. سألت وقرأت وجربت حتى عرفت أى رائحة تناسب جلد جسدى وتناسب فى الوقت نفسه ذوق من أحب من الرجال. قلت لك لا تحزن من أجلى فقد نجحت فى توليد السعادة برائحة متخيلة».

****

مدت يدها لتمسك بيدى وتسحبها إلى ناحيتها. فتحتها باليد التى سحبتها بها وراحت تسكب فى كف يدى ما تجمع من حبات المطر فى كف يدها وهى تقول بصوت أقرب إلى الهمس «الآن أظنك تستطيع الإجابة على السؤال، هل للمطر رائحة؟».
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي