خلال سني الطفولةِ، درجَ بعضُ الأقرباء على تعليمِ الأولادِ الصّغار في نطاقِ العائلة؛ كيف يَسبحون. الدَّرسُ الأوَّل: سِب جِسمَك للمياه. إن أفلحَ الصَّبيُّ أو أفلحَت الصَّبِيةُ؛ طفا الجَّسد فوق صفحةِ البحرِ بسهولة وقطعَ صاحبُه شوطًا في التعلُّم، وإن غاصَ امتدَّت يدُّ القريب تنتشله وتعمل على تلقينِه المهارة. بقدر ما يبدو الأمر بسيطًا؛ فقد يُخيفُ مَن لا يُرحب بالوَسع ومنَ يَخشى المَجهول. البحرُ فيه الصفتان والسَّيبان على الخائفِ شاقٌ عسير.
• • •
تقول المعاجمُ أن الفِعلَ سَابَ يأتي بمعنى ذَهَبَ حيث شاء، الفاعلُ منه سائبٌ، والمَفعولُ به مَسيبٌ، أما المَصدر فسيبان. إذا قيل سابَ الرَّجلُ صديقَه؛ فالمعنى أنه تجاهله وأهمله، وإذا سَابَ الواحدُ في الكلام فقد أفرط وأسهَبَ بغير رؤية، وإن يُترَك الصنبور مَفتوحًا ليسيب الماءُ منه، كان المراد أنه يَسيل، أما إن سابت الركب والمفاصل فجراء خوف شديد.
• • •
نستخدم الكلمة ومشتقاتها في تفاعلاتنا اليومية بوفرة؛ ولا أكثر من قولنا في كل من يتجاهل لنا رأيًا أو يرفض نصيحة: سِبه على كيفه أو سِبه على راحته، والغرض المبطن من القول أن هذا الشخص سوف يندم لاحقًا، فكل منا يظن في العادة أنه مستبصر عارف، وأن مشورته ذات وجاهة لا تنكر، إذ يدرك الموقف بأفضل مما يفعل الآخرون.
• • •
ربما يمضي المرءُ تارِكًا وراءَه كلَّ ما امتلك، دون إجراء يُؤمنه أو يُوزعه أو يُوصي باستعماله لغرض من الأغراض. يُوصف حينها بأنه قد سَابَ الجَّملَ بما حَمل. الجَّملُ وحمله مِن الثمائن، وقديمًا كانت رحلاتُ الشتاءِ والصَّيفِ التي تكني ما مَرَّ بأرض العرب والشام من تجارة واسعة؛ مَطمعًا للإغارة ومُحرضًا على السطو؛ فالجمل بذاته ثروة، والنفائس والبضائع التي ينقلها مغانم كبرى.
• • •
إذا صدر عن شخص قول أو فعل لا يحكمه منطق قيل: سيبك منه، والمعنى أن فعله بلا قيمة، ومن ثم لا يهتم له أحدٌ ولا يُوضَع في الحُسبان؛ بل يُترَك ليمُر وكأنه لم يكن. الياء المَنطوقةُ ضِمنَ أحرف فعلِ الأمر ليست في محَلها، والصحيح أن يُقال: سِبك، لكن التيسيرَ رجَّح التجاوُز وما أكثر ما نتجاوز في أحاديثنا. بعضُ المرات يتواجه ندان، فيمسكان كلٌّ بما من شأنه إخضاع الآخر؛ زلَّة مشينة، وثيقة دامغة، مَطلب عزيز المَنال، ومن أجل التلاقي على أرضٍ سواء يقترح أحدهما: سيب وأنا أسيب. الياء الأولى هنا أيضًا تستوجب الحذفَ، ولا بأس من التغاضي عن وجودِها إن كان فيه حَلٌّ مُرضٍ للطرفين المُتناحرين.
• • •
كثيرًا ما تتطرَّق النمائمُ إلى امرأةٍ ما يَصفها المتلامزون بأنها سائبة، وقد يزيدونها في الوَصف فيقولون إنها دائرةٌ على حلّ شَعرِها. حلُّ الشَّعر كنايةٌ عن أفعالٍ لا يقبلها المُجتمع كونها تخرقُ عاداته ونواميسه، والسيبان هنا دليل الافتقار إلى قواعد الضَّبطِ والرَّبط الأخلاقية التي يتوافق غالبُ الناسِ عليها. على كلّ حال، تراجعت تلك الأحكامُ في ضوءِ السيولة القِيَميَّة التي بتنا نحياها، ولم تعُد مثل هذه الأوصافُ مِن الجَّسامةِ بمكان.
• • •
المالُ السائب يُعلم السَّرقة؛ فإذا توفَّر وفاضَ وتحرَّك هنا وهناك، وتراخى المَرءُ عن دوره في المُراقبة والمُراجعة، وأدَرَك مَن به حاجة أو خصلة ذميمة أن التلاعبَ واردٌ مُتاح؛ كانت حالُ السيبان هي الدافع المُباشر، واللومُ واقعٌ آنذاك على السَّارقِ والمَسروق.
• • •
خصلاتُ الشَّعر السائبةُ عنوانُ الجَّمال ما كانت مَفرودةً مَلساء؛ لكن تلك باتت قاعدةً قديمةً فانية، فالإعلاناتُ اليوميَّةُ تُؤكد علينا أن الشَّعرَ الجَعِد والمُتموج وذا الهيئةَ اللولبيَّة أيضًا جميلٌ، والصيحةُ التي ينبغي اتباعها الآن هي استخدام ما يُزيل الانسيابيةَ ويُحقق بعض التماسك وربما الخشونة، والحقُّ أن لهذا مواطنَ جاذبيتِه ولذاك مثلها؛ لكن مُتطلباتَ التسويق والترويج تستلزم حفزَ المُستهلِك وإشعارِه أن ثمَّة ما ينقصه.
• • •
إن سَابَ الكلبُ فالمعنى أنه أفلتَ من قيده. منذ فترة ليست ببعيدة؛ دَخلت مِصر أنواع لم تكُن فيها مِن الكلاب، بعضها مَوطنه بلدان شديدة البرودة، وبعضها كلاب إنقاذٍ معروفة، والأخرى شرسة قادرة على صَيد إنسانٍ وقتله. يُرى كثير هذه الأنواع في أيدي صبيةٍ صغار مُتواضعي الأحوال؛ فلا ينتاب المَرءَ شكٌّ كبيرٌ في أنها مِلكٌ لآخرين، وأنها قد ضَلَّت طريقها، وأوقعها حظُّها العَثِر في سُوقِ تجارةٍ ازدهرت مع ازدهار المَظهريَّة وتراجُع العقول.
• • •
إن تمادى طفل أو شاب في سلوك سيء، استنكر الناسُ فعيله ولاموا من بيدِه الأمر؛ إذ لم يُمارس مسئوليتَه المُباشرة عن التقويمِ والتهذيب. يُشخصون الحالَ في لهجةٍ آسفة قائلين: سابَ له الحَبلَ على الغَارب. الغَاربُ هو المنطقةُ بين عنقِ البعير وسنامه، يُتركُ الحبلُ عليها فترعى الدابةُ بحريَّة، والقصد أن القيد ما غاب تمامًا؛ أفلتت الأمور ولم تَستَقِم.
• • •
حين تحتَدِم الأمور بين اثنين، وتتفجَّر الأوضاع بسببِ قولٍ أو تصرُّف أهوَج، يسمع المُجتمعون حولهما صيحةَ الطَّرفِ الأسرع غضبًا، مَصحوبةً بمُحاولة هجوم: سِبني عليه. الصَّيحةُ غرضُها إما إبعاد مَن حاولَ منع المَعركةِ الوشيكة، أو على العكس؛ هي دعوةٌ مُبطنةٌ للأقرب كي يتدخلَ ويُهدئ المَوقف. تحملُ العبارةُ تهديدًا؛ لكنها ليست دائمًا جادة، فالعادة أن تنتهيَ معاركُنا بالتصافي والعِناق، وبالمأثورِ الرَّاسخِ العتيد: يا دار ما دَخلكِ شرٌّ.
• • •
كثيرًا ما يتلقى الواحدُ منا تلك النصيحة: اعمل ما عليك وسِب الباقي على ربنا، والمقصود أن الاجتهادَ هو نقطةُ البداية، حتى ولو بقيت النتائجُ في عِلْمِ الغَيب، وأن النجاحَ يقتضي المُحاولةَ ويستلزمُ السَّعيَ، وما دون ذلك مشاجب نُعلقُ عليها تقاعسَنا وعدم رغبتِنا في خَوضِ اليَم.
• • •
كان الأرزُ السائبُ وكذلك المُعبأ رخيصًا في مُتناول اليدّ مُتوسطةِ الحال؛ فصار من علاماتِ الثَّراء على موائدِ الناس، بل وفقد قوامَه وهيئتَه الأولى وأمسى كسرًا مَطحونًا بلا طعم ولا مذاق. إن تتدهورَ الأوضاع إلى هذا الحد؛ فثمَّة أخطاءٌ، والثابت أن سبيلَ الإصلاح يبدأ حتمًا بالاعتراف.