بعيداً عن حالة الشد والجذب الراهنة بين جماعة «الإخوان المسلمين» وبقية القوى السياسية، فإن ثمة حاجة ملحة لإعادة التفكير فى الجماعة بشىء من الجدية والواقعية ليس فقط لأنها القوة الرئيسية التى تحكم مصر حالياً ولكن أيضا بهدف فهم ديناميات الجماعة كظاهرة سوسيولوجية وسياسية معقدة تستحق الدراسة والفهم بعيداً عن التناول الإيديولوجى العقائدى أو السياسى المكائدى.
من هنا فإن ثمة سؤالا مهما يطرح نفسه وهو: هل ثمة إمكانية لإصلاح جماعة «الإخوان المسلمين»؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فكيف يكون ذلك وما هو شكل هذا الإصلاح المطلوب؟ وهى أسئلة ربما لا تأتى على هوى جماعة «الإخوان» التى ترى نفسها حركة إصلاحية بحكم النشأة والتكوين والخطاب أو على هوى معارضيها الذين لا يرون بديلا سوى التخلص من الجماعة حتى لو كان الثمن هو العودة إلى ما أسوأ من عهد مبارك. بيد أنها تظل أسئلة محورية ومهمة ليس فقط كونها تتعلق بالجماعة التى تقبض الآن على السلطة فى مصر وهو ما يعنى أن إصلاح الأوضاع فى مصر مرتبط فى جزء منه بإصلاح الجماعة، وإنما أيضا كونها تتعلق بقدرة الجماعة نفسها على التكيف مع الواقع الجديد فى مرحلة ما بعد الثورة وبالتالى إمكانية استشراف مستقبلها.
وقبل الإجابة على هذا السؤال فإنه تجدر الإشارة إلى أن مسألة إصلاح أى حركة اجتماعية إيديولوجية هى عملية معقدة وطويلة المدى كما أنها بحاجة إلى قرارات جريئة من القيادة والأعضاء. وهو ما قد يحمل بحد ذاته خطورة على مدى تماسك الجماعة واستعداد قيادتها لدفع كلفة الإصلاح. من هنا قد يبدو مبررا، على الأقل من وجهة نظرهم، أن تخشى بعض قيادات الإخوان مسألة الإصلاح أو التغيير ليس فقط كونها قد تؤدى إلى ارتباك مؤسسى داخلى وإنما أيضا ما قد ينتج عنها من إعادة ترسيم مراكز القوى والتوازنات داخل الجماعة لصالح طرف أو فصيل على حساب أخر.
أما فيما يخص مسألة إصلاح الإخوان فنقصد بها ثلاثة أمور إعادة الهيكلة التنظيمية (بريسترويكا)، وتغيير منظومة القيم (الجلاسونست)، وتعميق الديمقراطية المؤسسية. وهى ثلاثة أمور كما ترون مستقاة من تجربة التغيير التى حدثت أواخر أيام الاتحاد السوفيتى قبل تفككه وانهياره أواخر التسعينيات. ودون القفز للنتائج وما إذا كان مصير الإخوان قد يصبح أشبه بمصير الاتحاد السوفيتى السابق، إلا أن ثمة فارقا مهما وهو افتقاد الإخوان، على الأقل فى هذه اللحظة، إلى الشخصية المحورية أو القيادة التنظيمية، على غرار ميخائيل جورباتشوف، التى يمكنها أن تقود مثل هذه الاصلاحات أو التغييرات. وبالتالى فإن الرهان الآن هو على القيادة الجماعية داخل الإخوان وهو ما قد يقلل من فرص حدوث تصدعات وانهيارات مشابهة لما حدث فى الاتحاد السوفيتى وإن ظلت كل الاحتمالات قائمة.
•••
وسوف نقتصر فى هذه المقال على مناقشة العنصر الأول من هذه الإصلاحات وهو إعادة الهيكلة التنظيمية أو بريسترويكا إخوانية ونقصد به أمرين إعادة بناء المؤسسات الداخلية الرئيسة فى الجماعة (أو ما يمكن أن نسميه بالهارد وير) وأهم هذه المؤسسات هى مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة والمكاتب الإدارية ومجالس شورى المحافظات بشكل يسمح بإعادة صياغة الأوزان التنظيمية والاجتماعية داخل الجماعة من جهة، ويشجع على التنوع الفكرى والإيديولوجى والجيلى داخل الإخوان من جهة أخرى. كذلك إعادة صياغة العلاقة بين مؤسسات صنع وتنفيذ القرار داخل الجماعة فضلا عن تحقيق قدر من التوازن بين هذه المؤسسات. وثانيا إعادة تشكيل منظومة القيم الداخلية فى الجماعة أو ما يمكن أن نسميه (السوفت وير).
فحسب اللائحة الداخلية للإخوان فإن الحدود الفاصلة بين مؤسسات الجماعة تكاد تكون متداخلة إن لم تكن معدومة. فعلى سبيل المثال فإن مجلس شورى الجماعة يكاد يكون خاضعا لسلطة مكتب الإرشاد والمرشد فى حين أنه من المفترض أن يكون الجهة التشريعية والرقابية على أعمالهما. وهو ما يبدو بوضوح فى الفصل الثالث من لائحة الجماعة (المواد من ١٢ وحتى ١٨) الخاص بعملية اختيار أعضاء مجلس الشورى وآلية عمله والتى تجعله مجرد تابع لمكتب الإرشاد ومنفذ لإرادة أعضاءه. ناهيك عن غياب النص عن آليات محاسبة مكتب الإرشاد أو المرشد العام للجماعة. ويتعلق بإعادة الهيكلة أيضا إعادة النظر فى إجراءات ووسائل وقواعد الترقى والحراك الاجتماعى والتنظيمى داخل الجماعة بحيث تصبح أكثر تمثيلا وشفافية لكافة أطياف الجماعة.
وكان الحديث قد جرى خلال نوفمبر الماضى حول إعداد الجماعة لائحة جديدة تحاول معالجة عيوب اللائحة الحالية التى جرى تعديلها عدة مرات منذ أوائل الثمانينات وحتى عام ٢٠٠٩. وهو ما نفته لاحقا بعض قيادات الجماعة.
لا تكمن المشكلة فى إمكانية تعديل اللائحة الداخلية للإخوان. فهو أمر فضلا عن حدوثه مرات عديدة من قبل ويكاد يكون محل إجماع داخل الجماعة. فمن المعروف أن هناك لجنة مخصصة لذلك تسمى «لجنة اللوائح»، وإنما المشكلة تكمن بالأساس فى مدى ترجمة التغييرات اللائحية إلى حقائق تنظيمية تسمح بإعادة هيكلة الجماعة ليس فقط إداريا وإنما تربويا وإيديولوجيا وسياسيا. بكلمات أخرى، ليس المطلوب أن تقوم الجماعة فقط بتعديل اللائحة القائمة للتخلص من عيوبها التنظيمية والإدارية وإنما أن يجرى إعادة تغيير العقلية التنظيمية التى تحكم الجماعة بحيث يتماشى التغيير اللائحى مع تغيير هيكلى لمراكز القوى الفكرية والجيلية داخل الجماعة.
ولسوء الحظ فقد جرت بالفعل عملية لإعادة هيكلة الجماعة تنظيمياً وإيديولوجياً طيلة العقدين الماضيين. وهى العملية التى أدت فى النهاية إلى سيطرة فصيل بعينه على مقاليد الأمور وتفرده بإدارة الجماعة دون رقابة أو مشاركة حقيقية من الأخرين أو من قواعد الجماعة. فبعد عقدين من التوازن النسبى بين المحافظين والإصلاحيين امتد منذ منتصف السبعينات وحتى منتصف التسعينات. وبعد أن تمتع الإصلاحيون بقدر من التأثير داخل قيادة التنظيم وذلك بفضل دعم ورعاية عمر التلمسانى وأحمد الملط وغيرهما ممن كانوا يعرفون بتيار العمل العام داخل الجماعة، نجح المحافظون فى إقصائهم تدريجيا. وقد كان رحيل التلمسانى فى مايو ١٩٨٦ وتولى محمد حامد أبوالنصر قيادة الإخوان خلفا له بمثابة نقطة تحول مهمة لصالح سيطرة المحافظين لاحقاً. ففى عام ١٩٩٦ تولى مصطفى مشهور قيادة الإخوان خلفا لأبو النصر الذى كان ضعيفاً وجاء من الصفوف الخلفية للجماعة دون ثقل تنظيمى. وقد نجح مشهور ونائبه مأمون الهضيبى (الذى سوف يصبح لاحقا المرشد العام للجماعة) فى وضع حد لما كان يعرف بالجيل الثانى أو الجيل الإصلاحى داخل الإخوان ممثلا فى بعض الرموز منها عبد المنعم أبوالفتوح وأبوالعلا ماضى وإبراهيم الزعفرانى وخالد داوود وعصام العريان وحلمى الجزار (قبل أن ينقلبا على عقبيهما وينطويان تحت جناح المحافظين). ولعل أبرز محطات هذا التحول ما كان يعرف بقضية «حزب الوسط» التى كشفت النقاب عن عملية التحول التى كانت تجرى داخل الجماعة لصالح تيار المحافظين أو الصقور.
•••
وقد جاء التحول الثانى الذى ساهم فى زيادة هيمنة المحافظين على الجماعة مع مطلع الألفية الجديدة حين تولى الهضيبى (الابن) قيادة الإخوان فى نوفمبر ٢٠٠٢ خلفا لمشهور. وبالرغم من قصر عهده (عامان فقط) فقد نجح فى تدعيم سيطرة التيار المحافظ على الجماعة. حيث قام محمود عزت (الذى كان قد تم اختياره أمينا عاما للجماعة عام ٢٠٠١) فى إعادة هيكلة المكاتب الإدارية للجماعة كى تصبح أكثر تناغما وانصياعا للتيار المحافظ. فى المقابل بدأ نجم رجل الأعمال والعقل الاستراتيجى للجماعة خيرت الشاطر فى الظهور بعد أن احتل مواقع مؤثرة داخل الهيكل التنظيمى والقيادى للإخوان. فبالإضافة إلى اختياره عضوا فى مكتب إرشاد الجماعة عام ١٩٩٥ فقد أصبح الشاطر بعد وفاة الهضيبى من أكثر القيادات الوسيطة تأثيرا فى الإخوان وهو ما ساعده كى يصبح نائبا ثانيا للمرشد الجديد آنذاك محمد مهدى عاكف الذى أعطى الشاطر حرية مطلقة لإعادة هيكلة الجماعة. وعلى مدار العقد الأول من الألفية الجديدة نجح تحالف «عزت ــ الشاطر» (بالمناسبة فإن العلاقة بين الرجلين لها جذور قديمة بدأت فى اليمن أولا ثم بريطانيا لاحقا وذلك خلال النصف الأول من الثمانينيات) فى إعادة الهيكلة الفعلية (وليست اللائحية) للجماعة بحيث باتت مفاصل التنظيم تحت الهيمنة الكاملة للمحافظين. فعلى سبيل المثال جرى إعادة ترتيب مكتب الإرشاد وتم إقصاء كافة الوجوه الإصلاحية ومن أبرزها أبو الفتوح ومحمد حبيب الذى خرج من الجماعة بشكل لم يكن يليق بوزنه كنائب أول للمرشد. كما تمت إعادة هيكلة مجلس شورى الجماعة كى يضم كثير من أبناء المحافظات كما أعيد ترتيب الوزن التنظيمى والتمثيلى للمكاتب الإدارية ومجالس شورى المحافظات. فى حين تم تصعيد جيل جديد من المحافظين أكثر ولاء وتبعية لتكتل «عزت ــ الشاطر» لعل أبرزهم الدكتور محمد سعد الكتاتنى والمهندس سعد الحسينى وصبحى صالح ومحمود غزلان ومحيى حامد ومحمد عبدالرحمن وأسامة نصر وعبدالرحمن البر وعصام الحداد وقبلهم جميعا الرئيس الحالى محمد مرسى والذى يستحق مقالا بحد ذاته.
•••
من هنا فإن عملية إعادة الهيكلة الإخوانية أو ما يمكن أن نسميه بريسترويكا هى أشبه بعملية جراحية تستهدف تفكيك هذه الكتلة التنظيمية الجامدة من خلال عملية تغيير حقيقية سواء على مستوى مؤسسات الجماعة أو على مستوى القيادات بحيث تسمح بضخ دماء جديدة تتمتع بالاستقلالية والقدرة على تغيير مسار الإخوان باتجاه الانفتاح والاندماج الطبيعى فى المجتمع كحركة سياسية وليست كطائفة منغلقة على ذاتها. وبدونها لا يمكن الحديث عن إصلاح جماعة «الإخوان المسلمين».
باحث ومحاضر بجامعة «دورهام» ــ إنجلترا