قامت ثورة 25 يناير المجيدة لإنهاء قمع الدولة، ولا عجب أنها قامت فى نفس اليوم الذى حددته الدولة للاحتفال بأحد أجهزتها القمعية وهو جهاز الشرطة وبقية القصة معروفة.
•••
يقول الخبر إنه تم حبس الطالب «خالد عبدالغني» ذى الخمسة عشر ربيعا بسبب اقتنائه مسطرة عليها شعار «رابعة». دعك من الخبر فهو لا يختلف كثيرا عن أخبار القمع التى تملأ الصحافة المصرية منذ انقلاب الثالث من يوليو، وإنما المأساة هى فى قيام ناظر المدرسة «رمضان السيسي» بالتبليغ والوشاية بالطالب لدى الشرطة التى اعتقلت الطالب واستدعت والده للتحقيق. هكذا دخلت مصر مرحلة «الوشاية السياسية» وهى إحدى المراحل الكاشفة لدرجة التطبيع الجماهيرى مع مسألة القمع.
•••
تقول عالمة السياسة الألمانية «هانا أرندت» فى سفرها الرصين «أصول الشمولية» (إن أهم ما ترنو إليه الأنظمة الشمولية هو بث الرعب والخوف فى نفوس الجماهير من أجل إحكام سيطرتها عليهم. وفى سبيل ذلك فإنه تعمد إلى توظيف فئات الشعب ضد بعضها البعض وتصبح الوشاية إحدى الأدوات الرئيسية لضرب هذه الجماهير من جهة، وضمان عدم قيامها معا من جهة أخرى). هكذا حكم صدام حسين العراق لأكثر من عقدين وهكذا فعل حافظ الأسد ومن خلفه ابنه لمدة نصف قرن، تماما مثلما فعل القذافى طيلة عهده. ولم يكن لشمولية هؤلاء جميعا أن تستمر وتستقر دون مأسسة الخوف والقمع وتطبيعه داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. بيد أن نهايتهم جميعا كانت واحدة وهى: السقوط فى بئر التاريخ غير مأسوف عليهم. تضيف أرندت «تحت أنظمة الحكم الشمولى يصبح الخوف فى البداية مسيطرا على العقل والنفس، ولكنه بعد فترة يفقد مفعوله وجدواه العملية»، وهذا ما يحدث فى مصر منذ سقوط مبارك.
•••
الحقيقة الوحيدة منذ قيام ثورة يناير 25 وإلى الآن هى أن محاولات إعادة إنتاج القمع قد باءت بالفشل. فقد حاولت أنظمة ما بعد مبارك استخدام وتوظيف آلة القمع لصالحها ولكنها لم تلق سوى ما لاقاه مبارك ورجاله: السقوط المزرى. المدهش فى الأمر أنه كلما ازداد قمع الدولة كلما جرى إحياء جذوة الثورة من جديد، وكلما زاد أيضا إصرار القوى الثورية والنشطاء السياسيين على إفشال هذه الدولة القمعية وإنهاء سلطويتها. بكلمات أخرى، فإن القمع أصبح بمثابة «إكسير حياة» للثورة وشبابها.
ورغم ذلك فيبدو أن ورثة دولة مبارك لم يتعلموا الدرس. فمنذ الثالث من يوليو وحتى الآن تسعى هذه الدولة جاهدة بكل أجهزتها ومؤسساتها ليس فقط إلى إعادة إنتاج آلة القمع الأمنى والسياسى والتى جرى مأسستها ومنهجتها طيلة عهد المخلوع وإنما أيضا محاولة خلق حالة من التطبيع النفسى معها وذلك من خلال إيجاد ظهير شعبى لا يقبل فقط التعايش مع القمع وتبريره وإنما أيضا المساهمة فيه وذلك على غرار ما يفعل «المواطنون الشرفاء».
من هذه الزاوية يمكن النظر إلى «رابعة العدوية» و«ميدان النهضة». فقد كان الهدف الرئيس منهما هو إخماد وقتل الشعور الثورى الذى وُلد ونشأ مع ثورة يناير المجيدة. لم يكن الهدف هو التخلص من الإخوان الذين كانوا قد خسروا السلطة بمعناها الحقيقى والرمزى بسبب فشلهم السياسى طيلة عامهم فى الحكم، ولكن كان الهدف الحقيقى هو «إسكات وإرهاب» القوى الثورية الحية التى كانت ولا تزال بمثابة «غصة» فى حلق أنظمة ما بعد الثورة. ولم يكن من هدف لمشاهد القتل فى رابعة والنهضة وأبوزعبل سوى بث الخوف والرعب ليس فقط فى نفوس جماعة الإخوان وأنصارها وإنما أيضا داخل كل نفس شاركت فى ثورة يناير وتحررت من ربقة الخوف. باختصار، فإن ما حدث صبيحة الرابع عشر من أغسطس بدا لوهلة كما لو كان محاولة «دولتية» متأخرة لتصحيح ما حدث فى 28 يناير، أو هكذا أراده القائمون على الأمر: الانتقام الجسدى لـ«هيبة الدولة» وذراعها القمعية.
•••
وقد بدأ سيناريو التطبيع السيكولوجى مع القمع عبر مدخل «شعبوى» جرى التمهيد له فى الثلاثين من يونيو حين تم رفع أفراد من جهاز الشرطة على الأعناق فى مفارقة عجيبة سيتوقف أمامها المؤرخون حين يكتبون تاريخ الثورة المصرية. فقد كان الهدف الرئيس من ذلك هو أن يدوّى شعار «الشعب والشرطة إيد واحدة» فى جنبات التحرير ويسمعه الجميع تمهيدا لإحياء «جمهورية الضباط» مجددا بأسرع وقت وبأى ثمن. لقد كان ذلك المشهد بمثابة المدخل السحرى لتوطين وإنفاذ المعادلة السياسية الجديدة «الأمن مقابل القمع» التى جرى فى ظلالها تسويق رابعة وما لحقها من انتهاكات، وهى ذات المعادلة التى يجرى تسويقها الآن من أجل تبرير عملية القتل البطىء لثورة 25 يناير واعتقال رموزها ونشطائها دون أن يهتز جفن لمن ثاروا من أجلهم هؤلاء، وهى أيضا نفس المعادلة التى حكمت ولا تزال المسار السياسى كله فى مرحلة ما بعد الثالث من يوليو، وهى أيضا التى سيتم استخدامها لتمرير «أفضل دساتير العالم وديباجته الملهمة» فى يناير المقبل.
•••
ربما تبدو استراتيجية «الأمن مقابل القمع» ناجعة وفعالة حتى الآن، ولربما تفسر انحناء البعض لما يحدث رغبا أو رهبا. بيد أن للتاريخ دائما رأيا آخر. فمبارك لم يسقط فقط لأنه كان أقل ديمقراطية وأكثر فسادا، وإنما أيضا لأنه كان أكثر غشما وغباء فى استخدام آلة القمع الجهنمية. وهكذا كانت الحال مع المجلس العسكرى الذى حكم البلاد بعد الثورة فكان القمع وبالا عليه وعلى صورته وسمعة أعضائه. وليس غريبا أن تصبح أحداث «ماسبيرو» و«محمد محمود» و«مجلس الوزراء» بمثابة محطات خالدة تحيى جذوة الثورة كلما خبت وتقدِّم دليلا ساطعا على فشل آلة القمع فى تحقيق أهدافها بعد أن أسقطت حكم العسكريين فى مرحلته الأولى. وهكذا أيضا جرى الحال مع مرسى وجماعته الذين لم يسقطوا بسبب فشلهم السياسى فقط وإنما أيضا بسبب محاولتهم استئناس «دولة القمع» وتوظيفها لصالحهم فكانت النتيجة أنها ابتلعتهم أحياء، وهكذا سوف تكون الحال مع كل من يحاول إحياء «دولة الخوف والقمع» التى سقطت فى 25 يناير ولن تعود مهما كان الثمن.