كان ذلك فى الثامنة صباحا منتصف مارس ٢٠٠٨ حين رن هاتفى المحمول وكنت لا أزال فى مرحلة ما بين الغفوة واليقظة وإذا بمحدثى على الطرف الآخر يقول: صباح الخير يا دكتور خليل، معاك أخوك مهدى عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين. انتفضت معتدلا محاولا استيضاح ما إذا كان فعلا محدثى هو الأستاذ محمد مهدى عاكف أم أحد الظرفاء، ولكنه لم يمنحنى فرصة للاستفاقة فلاحقنى: كتاب حضرتك قيم وبه مجهود طيب ولكن ألا ترى أنه من الإجحاف أن تصف جماعتنا بالشيخوخة ونحن نمتلك أكبر كتلة برلمانية معارضة فى تاريخ مصر ولدينا أقوى تنظيم سياسي؟! كان الاستاذ عاكف يشير إلى كتابى (الإخوان المسلمون فى مصر: شيخوخة تصارع الزمن، دار الشروق الدولية، ٢٠٠٧) الذى لم يكن قد مر على نشره أكثر من ثلاثة شهور ولاقى قبولا حسنا سواء من أهل التخصص أو القارئ العادى. لم أكد ألملم شتات يقظتى حتى لاحقنى الأستاذ عاكف بالجملة الإخوانية الشهيرة: كنت أتمنى يا دكتور خليل «أن تسمع منا وليس عنا». وربما لم يكن فضيلته يعرف أن كتابى الذى أمضيت قرابة ثلاثة أعوام فى جمع مادته العلمية قد قام بالأساس على دراسة ميدانية أجريتها مع عدد معتبر من قيادات الإخوان خاصة القيادات الوسيطة والشابة فى القاهرة وخارجها. وقبل أن أرد على فضيلته، بادرنى بدعوة مفاجئة للقاء بمكتبه الكائن بشارع الملك الصالح بالمنيل قائلا: «إيه رأيك حضرتك تزورنا فى المكتب نشرب شاى وتطرح علينا كل الأسئلة التى تدور بخلدك». شكرته على دعوته ووعدته بلقاء لم نحدد موعده فى حينه. بعدها بأسابيع التحقت بمعهد «بروكينجز» للأبحاث بواشنطن كباحث زائر لعدة أشهر، وحملت معى كلمات الأستاذ عاكف عن مسألة «الشيخوخة» وامتعاضه من وصفى للجماعة التى يقودها بأنها تعانى شيخوخة رغم صعودها السياسى الكبير فى الانتخابات البرلمانية عام ٢٠٠٥ والتى حصدت خلالها حوالى ٢٠ بالمائة من مقاعد البرلمان. وهو الامتعاض الذى أكد عكس ما أراد الأستاذ عاكف إيصاله لى، فقد أثبت أن جماعة الإخوان تعانى بالفعل من شيخوخة فعلية لا تستطيع التمييز بين الحركة والفكر وبين التنظيم والتنظير وبين الجسد والعقل. فما قصدته فى كتابى كان شيخوخة عقل وفكر وليس شيخوخة حركة أو تنظيم مثلما فهمها الأستاذ عاكف الذى يقيس حيوية الجماعة بمدى قدرتها على الحشد والتعبئة بغض النظر عن المضمون السياسى والنتائج المترتبة على إعلان حالة التعبئة. وهو ما لا يختلف فيه عن كثير من قيادات وقواعد الجماعة التى تنظر للكون بمنظور كمى محض. ولا يدرى هؤلاء أن التنظيم الشيوعى الذى حكم الاتحاد السوفييتى عقودا كان قويا وصلبا ولكنه لم يمنع القطب الشرقى من التفكك والانهيار بعد حوالى قرن من الصمود والبقاء. وبنفس الطريقة كان التنظيم الاشتراكى الذى بناه عبدالناصر قويا وعفيا وابتلع الدولة والمجتمع ولكنه تفكك فى أسابيع قليلة وألقى به السادات إلى ذمة التاريخ.
●●●
لا يقاس النجاح والصعود السياسى إذا بالقدرة على تعبئة الصف أو حشد أفراده فى المناسبات السياسية (كإعلان النفير العام الذى صدر بعد أحداث المقطم)، فتلك وظيفة عقائدية وإيديولوجية وسيكولوجية محضة يمكن لأى تنظيم هيراركى القيام بها، ولكن السؤال هو كيف يمكن لهذه الكتلة البشرية أن تنتج عقلا مستقلا وفكرا حرا يمكنه أن يحاور ويقنع، لا أن يطيع ويسمع، ينتقد ويبدع، لا أن يقلد ويخضع. وللحق، فقد كان البحث عن عنوان مناسب للكتاب مهمة شاقة استغرقت شهورا وذلك لسببين أولهما أخلاقى، وهو الخوف من أن يساء فهم الكتاب بمجرد قراءة عنوانه أو أن يتم تسكينه، خاصة من قبل الإخوان، ضمن الكتب المناوئة للجماعة خاصة وأن نشره كان فى ذروة القمع السلطوى على الإخوان من نظام مبارك بعدما عرف بقضية «ميليشيات الأزهر». حينها كان الهجوم على الإخوان من قبل بعض الصحفيين والباحثين أحد الطرق المضمونة للترقى المهنى والاجتماعى وهو ما يعرفه كثيرون. فى حين كنت حريصا على أن تقرأ قيادات الإخوان وقواعدهم الكتاب فلربما التفتوا لما فيه من نقد موضوعى فبادروا بالإصلاح قبل فوات الأوان. أما ثانى الأسباب فمهنى وموضوعى، ويتعلق بمدى نجاعة أن يعطى الباحث حكما معياريا أو قيميا نهائيا على ظاهرة هى بطبيعتها متحركة ومتغيرة، وبالتالى ربما يكون حكمه بعيدا عن أطر الموضوعية المطلوبة والأمانة البحثية المفترضة بما قد يؤثر على مصداقية الكاتب وسمعته. وبعد تفكير كان عنوان الشيخوخة هو الأقرب لتوصيف الحال التى تمر بها الجماعة. وللحق فقد استلهمت العنوان من جملة موحية كنت قد قرأتها فى الكتب المهمة للمستشار طارق البشرى (الملامح العامة للفكر السياسى الإسلامى المعاصر، دار الشروق ١٩٩٦) تقول «الفكر كشأن أى كائن حى، لن نحميه بأن نضعه فى المعازل، وإن السبيل الأمثل للدفاع عن الوجود هو بالتجديد والتفاعل مع أوضاع الواقع المعاش، وستقوى الجذور إذا امتدت الفروع وأورقت الأغصان». ومنها استوحيت عنوان الكتاب عن شيخوخة الإخوان الذى عرضت به ما رأيته مظاهر للشيخوخة الفكرية الكامنة فى العقل السياسى للجماعة. وربما من الطريف أن أذكر أن مقدمى كتابى (الدكتور محمد سليم العوا والزميل العزيز الاستاذ ضياء رشوان) كانا قد تلقفا عنوان الكتاب بحذر شديد وكان ذلك فى صيف ٢٠٠٧، ففى الوقت الذى رآه الدكتور العوا مغامرة بحثية وربما حكما مسبقا على جماعة كانت حينذاك فى أوج صعودها، فقد رآه الأستاذ ضياء حكما متعجلا ويحمل قدرا من المبالغة باعتبار أن الإخوان هى «جماعة حركة وشارع وليست جماعة فكرية» بحسب تعبيره فى أحد اللقاءات التى جمعتنا بمكتبه فى تلك الفترة (لا أدرى ما إذا كان الزميل ضياء رشوان لا يزال على رأيه هذا فى جماعة الإخوان أم أنه اختلف بعد الثورة!).
●●●
لذا حين غمز بعد الأصدقاء من الجماعة وخارجها عما إذا كنت لا أزال على موقفى من مسألة شيخوخة الإخوان خاصة بعد وصول الرئيس محمد مرسى إلى السلطة وصعود الجماعة لسدة الحكم، وما إذا كنت سأراجع موقفى، كان ردى بنفس الدرجة من اليقين بأن ما كان كامنا من الشيخوخة داخل أروقة الجماعة سوف يصبح أمرا واقعا وسيدفع الجميع ثمنها، وهو ما حدث للأسف. فبعد وصول الإخوان إلى السلطة ووضوح مدى العجز الذى تتعاطى به قيادات الجماعة مع مسألة الحكم وتركته الثقيلة فضلا عن زيادة حجم السخط والرفض الشعبى لسياسات الجماعة وربما لقياداتها وأفرادها، أصبح السؤال المهم الآن هو: أين تكمن المشكلة؟ هل هى فى التنظيم أم فى الفكر؟ فى الجسد أم فى العقل؟ فى الفرد أم فى الجماعة؟
وهى أسئلة عرفت إجابتها لاحقا عندما قابلت الأستاذ مهدى عاكف ومعه بعض من قيادات الصف الأول من الجماعة بعد نحو عام على دعوته لى ولهذا حديث آخر.
باحث ومحاضر ــ جامعة دورهام ــ انجلترا