بعد مائة عام.. عودة تساؤلات الأوروبيين عن أزمات الرأسمالية والديمقراطية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بعد مائة عام.. عودة تساؤلات الأوروبيين عن أزمات الرأسمالية والديمقراطية

نشر فى : الجمعة 3 مارس 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مارس 2023 - 7:05 م

بين الحربين العالميتين، تكالبت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الأوروبيين، وحاصرتهم تناقضات الدماء والدمار والفقر من جهة والتقدم العلمى والتكنولوجى والصناعى والفنى من جهة أخرى، وتعاقبت على مجتمعاتهم المواجهات العسكرية بين جيوش دول قديمة وأخرى حديثة ودورات الصراع بين قوى يمينية متطرفة (الفاشية والنازية) وقوى اليسار الراديكالى (الحركات والأحزاب الشيوعية) فى ظل تراجع تيارات اليمين الليبرالى والمحافظ واليسار الاشتراكى.

فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، تعالت أصداء تحذيرات السياسيين من قرب نهاية هيمنة القارة العجوز على العالم وكذلك أصداء نبوءات الفلاسفة وتوقعات المفكرين بشأن أفول قادم للغرب بعد أن أخفق نموذجه للتقدم إن فى منع الحروب أو فى التخلص من الاستغلال والاستعمار (وإليهما استندت من بين مرتكزات أخرى الهيمنة الأوروبية بين القرنين السادس عشر والعشرين) أو فى تطبيق قيم المساواة وتقرير المصير والحرية خارج حدوده بعد أن بشر بها وزعم النهوض بنشرها عالميا (عبء الرجل الأبيض).

كان هذا هو حال الأوروبيين فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وكانت هذه هى قضايا مجتمعاتهم الكبرى. ومع ذلك الحال وتلك القضايا تتشابه على نحو لافت أحوال أوروبيى القرن الحادى والعشرين بعد ما يقرب من انقضاء مائة عام على حقبة ما بين الحربين العالميتين، وبعد مرور عام على نشوب حرب دامية فى وسط أوروبا شنتها روسيا لمقتضيات أمنها القومى، واستدعت دفاعا أوكرانيا مستميتا عن التراب الوطنى، وتعاملت معها الولايات المتحدة الأمريكية كمقدمة للصراع على النفوذ فى أوروبا وكسبب مشروع لمعاقبة روسيا وللعمل على تهميشها فى جوارها المباشر وعالميا، وتراها أوروبا ممثلة فى اتحادها كنقطة انطلاق للتحرر من الاعتماد على صادرات الطاقة الروسية واحتواء مطامع الجارة الكبيرة صاحبة الثروات الطبيعية الهائلة والقدرات العسكرية المتطورة، وتعانى دول الجنوب من تداعياتها على الاقتصاد العالمى ومن معدلات التضخم المرتفعة والتراجعات الموجعة فى أمن الغذاء والطاقة والبيئة التى رتبتها وتدعو (بقيادة الصين) إلى إنهاء القتال والذهاب إلى مائدة المفاوضات لتسوية القضايا العالقة بين روسيا وأوكرانيا سلميا (خطة السلام التى أعلنتها الخارجية الصينية فى ٢٣ فبراير ٢٠٢٣).

• • •

فى عشرينيات القرن الحادى والعشرين، تواجه المجتمعات الأوروبية صراعات داخلية حادة ومركبة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية.

اقتصاديا، يلقى تواكب التراجع فى نسب النمو السنوية بفعل جائحة كورونا مع الارتفاعات المتتالية فى أسعار الغذاء والطاقة التى قرر الاتحاد الأوروبى الامتناع عن استيرادها من روسيا بالفئات الفقيرة والطبقات الوسطى إلى هاوية أزمة معيشية طاحنة ليست مرشحة للانتهاء قريبا ولن يصلح معها لا اكتفاء الحكومات الغنية كالسويد والدنمارك وهولندا وألمانيا بتقديم الدعم المالى (شيكات نقدية للأسر والأفراد وحوافز ضريبية) والعينى (كوبونات بنزين مخفضة واشتراكات مواصلات عامة مخفضة) ولا تعويل الحكومات متوسطة الحال فى إسبانيا وإيطاليا والمجر على المساعدات القادمة من مؤسسات الاتحاد فى بروكسل.

فأوروبا، فى جنوبها وشمالها كما فى شرقها وغربها، هى اليوم إزاء اختيارات كبرى فيما خص السياسات الاقتصادية المتبعة. البعض فى أوساط اليمين الليبرالى والمحافظ يريد إطلاق المنافسة فى السوق الرأسمالى دون حدود، ويتجاهل الجوانب الاجتماعية المتعلقة بضمان فاعلية شبكات الأمان (إعانات الإعاشة والبطالة والمعاشات) والخدمات (التعليم والصحة ونظم رعاية الأطفال وكبار السن) الممدودة للفقراء والطبقات متوسطة الدخل، ويستبعد من النقاش العام والسياسى كل إشارة إلى ضرورة تحقيق شىء من التوازن والعدالة فى المجتمعات الأوروبية بكونها ستضعف من اقتصاديات القارة العجوز وتقلل من حظوظها فى مواجهة العملاقين الولايات المتحدة والصين. وفى المقابل، يطالب اليسار بأطيافه الاشتراكية التقليدية والحديثة بعدم التخلى عن البعد الاجتماعى للسوق الرأسمالى وبالمزج بين مقتضيات تنافسية القطاع الخاص فى أوروبا وخارجها وبين حماية الفقراء والطبقات الوسطى من خلال تطبيق نظم ضريبية تصاعدية (وبها ترتفع نسبة الضريبة المستحقة إلى الدخل مع ارتفاع الدخل) وإقرار ضرائب الأرباح الرأسمالية (أسهم البورصات مثالا) وضرائب الأصول العقارية المتوارثة (منازل الأسر المتوارثة نموذجا) التى تستطيع الحكومات أن توجه حصيلتها إلى شبكات الأمان والخدمات لغير الأغنياء وإلى تمويل التحول الأخضر، أى الاتجاه نحو الاعتماد على مصادر متجددة للطاقة وأنشطة اقتصادية (صناعية وزراعية وخدمية وتكنولوجية ومعلوماتية) منخفضة الانبعاثات الكربونية والحرارية.

• • •

تُلقى الوضعية الراهنة فى ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر من بين دول أوروبا الكثير من الضوء على تناقضات السياسات الاقتصادية المقترحة من قبل قوى اليمين الراغبة فى نظم رأسمالية بلا حدود إنسانية أو اجتماعية أو بيئية ومن قبل قوى اليسار الباحثة عن المنافسة فى السوق الرأسمالى دون نسيان الفقراء والطبقات الوسطى وحقوق الأجيال القادمة التى حتما ستتحمل كلفة التخريب البيئى الذى رتبته فى البدء ثورات الأوروبيين الصناعية والتكنولوجية قبل أن تعولم وتتجه من القارة العجوز غربا إلى أمريكا الشمالية ثم شرقا إلى آسيا بمراكزها الاقتصادية الكبرى فى اليابان وكوريا والصين (بالترتيب التاريخى للصعود الصناعى والتكنولوجى).

فالائتلاف الحاكم فى برلين يضم الحزب الديمقراطى الحر، وهو صاحب توجه يمينى مناصر لرأسمالية لا حدود لها وقريب سياسيا من المصالح المالية (البنوك) والشركات الصناعية الكبرى (شركات السيارات) التى تطالب بخفض الضرائب، وبالحد من كلفة شبكات الأمان الاجتماعى (الضمانات الاجتماعية)، وبتوجيه الاستثمارات الحكومية إلى تطوير القاعدة الصناعية والتكنولوجية دون كثير اعتبار لمسألة الطاقة المتجددة أو لأولوية خفض الانبعاثات الكربونية والحرارية. وبالائتلاف الحاكم أيضا حزب الخضر المعبر عن اليسار الحديث المتبنى منذ سبعينيات القرن العشرين لقضايا العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية والسلام العالمى، وهو وإن ورطته المشاركة فى الحكم فى تأييد تقديم ألمانيا لدعم عسكرى لأوكرانيا فى حربها الحالية مع روسيا والموافقة على زيادة غير مسبوقة فى موازنة الدفاع ومخصصات الجيش الألمانى إلا أنه يرفض بشدة خفض الضرائب على الأغنياء، ويعارض توجيه الاستثمارات الحكومية إلى الصناعات التقليدية، ويطالب بإعطاء الأولوية فى السياسات الاقتصادية لتقوية شبكات الأمان الاجتماعى ولتمويل الاستثمار فى مصادر الطاقة المتجددة ومواجهة تداعيات التغير البيئى. وبين الحزبين وبين الموقفين اليمينى واليسارى من السياسات الاقتصادية، يقف حزب المستشار أولاف شولتس، الحزب الاشتراكى الديمقراطى ممثل اليسار التقليدى، عاجزا وغير قادر على الفعل الحكومى المنظم إن باتجاه تحرير السوق الرأسمالى من كل القيود الإنسانية والاجتماعية والبيئية لتعزيز التنافسية أو باتجاه استعادة التوازن الاجتماعى لاقتصاد السوق وتحقيق عدالته البيئية.

وإذا كانت هذه، وكما تدلل عليها الوضعية الراهنة فى ألمانيا، هى العناصر الاقتصادية للأزمة الكبرى التى تعانى منها القارة العجوز فى عشرينيات القرن الحادى والعشرين، فإن أوروبا تواجه أيضا اليوم أزمات اجتماعية وسياسية تعصف بمجتمعاتها وتدلل على حيرة مواطنيها ومواطناتها بشأن النموذج الأفضل لإدارة شئونهم وهوية عيشهم المشترك وطبيعة نظم حكمهم.

فى جنوب القارة وشمالها كما فى شرقها وغربها، يتساءل أوروبيو اليوم عن حدود العلاقة بين دولهم الوطنية وحكوماتهم المنتخبة وبين الاتحاد القابع فى بروكسل بحكومة قارية غير منتخبة ذات صلاحيات واسعة وبرلمان منتخب ولكن محدود التأثير. يتساءل الأوروبيون عن مضامين العقد الاجتماعى الذين يريدون منه تنظيم العلاقة بين الأغنياء وبين الفقراء والطبقات متوسطة الدخل، بين المواطنات والمواطنين الأصليين وبين نظيراتهن ونظرائهم المجنسين والمقيمين واللاجئين، بين من يتحمس للهويات الوطنية وبين من يناصر الاندماج الأوروبى وعولمة لا تخشى الارتحال والهجرة واللجوء، بين من يرفض وجود الأجانب ودعاة وضع الأسلاك الشائكة على الحدود وإغلاق أبواب الهجرة واللجوء من شعبويين ويمينيين متطرفين وعنصريين وبين من يتمسك بإنسانية أوروبا وانفتاحها على الآخر من خارجها وتمكينه من القدوم إليها دون خوف (وأيضا لاحتياجات سوق العمل). يتساءل الأوروبيون عن نظام الحكم الأفضل فى القرن الحادى والعشرين وحكوماتهم المنتخبة ديموقراطيا تتنازعها، من جهة، قوى اليمين الليبرالى والمحافظ واليسار الاشتراكى وقوى اليمين الشعبوى والمتطرف وقوى اليسار الراديكالى وتفرض عليها محدودية الفاعلية السياسية. ومن جهة أخرى، يرتب تراكم الأزمات الاقتصادية والتراجعات الاجتماعية شيوع قدر من التشكيك العام (تثبته استطلاعات الرأى الراهنة) فى قدرة الحكومات الديمقراطية على التغلب على معدلات النمو المنخفضة ومعدلات التضخم المرتفعة والقلق المستمر من قضايا الهجرة واللجوء، وهو ذلك القدر من التشكيك الذى تستغله القوى الشعبوية والمتطرفة لتمرير نقدها الجذرى للديمقراطية.

• • •

مثلما كان حالهم بين الحربين فى القرن العشرين، تحاصرهم الأزمات والتناقضات ويبحثون عن هوية لعيشهم المشترك ويفكرون فى حدود نموذج تقدمهم ومرتكزاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وينظرون خارج قارتهم إلى الغرب (أمريكا الشمالية تحديدا الولايات المتحدة آنذاك) والشرق (آسيا تحديدا اليابان آنذاك) بحثا عن دروس مستفادة؛ ها هم أوروبيو عشرينيات القرن الحادى والعشرين يعودون فى ظروف صراعات حادة ومركبة إلى طرح نفس التساؤلات والبحث عن هوية ومضامين عقد اجتماعى جديد والتفكير النقدى فى مستقبل اقتصاد السوق الرأسمالى والديمقراطية وجوهر العلاقة بين الدول الوطنية والاتحاد القارى، بين مفردات الشعور الوطنى ومقتضيات الاندماج والعولمة. فى المركز الأقدم تاريخيا للرأسمالية والديمقراطية والعولمة، ثمة أسئلة بالغة الأهمية تواجهها المجتمعات الأوروبية فى حيرة وقلق، أسئلة لم يعد حتى عتاة الترويج للانتصار النهائى للرأسمالية والديمقراطية والعولمة بقادرين على استبعادها أو تجاهلها (كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما فى تسعينيات القرن العشرين مقارنة بكتاباته عن الدولة والنظام السياسى وتحديات الديمقراطية الليبرالية بين ٢٠١٤ و٢٠٢٢ نموذجا).

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات