مِن الناس مَن إذا تكالبت عليه الرزايا وتواترت النوائبُ؛ فَقَدَ شهيتَه وامتنع عن الطعام. منهم أيضًا مَن اعتاد العكس؛ فمتى حاصرته الهُمومُ انكبَّ على تناول ما طالت يداه، ويُقال حينئذ إنه قد حَطَّ همَّه في الأكل. على كلّ حال مضى عهد الاختياراتِ، والأيامُ الخوال شاهدةٌ على كلّ ماضٍ؛ فقد تبدَّلت الظروفُ وتغيَّرت ردود الأفعالِ وتدهوَرَت الأوضاع بما يفوق سرعةَ انطلاق الرَّصاص؛ ولم يعد إلا الصَّومُ وسيلةً للتعبير عن المشاعرِ الجيَّاشة حزنًا أو فرحًا؛ فما مِن وَفرةٍ تسمح بإلهاءِ النَّفس بين وَجبةٍ خفيفةٍ ووليمةٍ وتَصبيرة.
• • •
تقول المعاجمُ والقواميسُ أن الفعلَ حَطَّ يأتي بمعنى وَضَع، المَحطوُطُ هو اسمُ المَفعول والحَطُّ مَصدر، وحَطَّ عينَه على شيءٍ فكناية عن الرغبة فيه؛ فإذا حَطَّ الولدُ عينَه على لُعبةٍ فقد انتقاها دونًا عن غيرِها وفضَّلها، وإذا حَطَّ رجُلٌ عينه على امرأةٍ فثمَّة إعجابٌ يُرجى أن يمتَدَّ ويتطوَّر والعكسُ صحيح، أما إذا ترجَّلَ الراكبُ عن دابته وأنزلَ من فوقِ ظَهرِها المتاعَ؛ فقد حَطَطَ عن راحلتِه وأقام.
• • •
درجنا صغارًا على ترديدِ أهزوجةٍ قصيرةٍ مَطلعها حطَّة يا بطة، كما شاهدنا فيلم بائعة الجرائد الذي أدت بطولته الفنانة ماجدة حيث اختلفت كلماتُ الأغنية قليلًا، ثم عرفنا كبارًا هذه الأبيات التي كتبها صاحبُ الإلهامِ المُتألق سيد حجاب: "حطَّه يا بطَّة يا دقن القطة.. بابا جاي وشايل الشنطة إيه في الشنطة.. فيها ما فيها.. غش وبوليتيكا وأوَنْطَة.. حطَّة يا بطَّة يا دقن القطة."، وقد غناها هذه المرة الشيخ إمام.
• • •
ربما يلتقي اثنان فيكتشفان من خلال الحديثِ أنهما يتشاركان أحوالَ البؤس ويعانيان شظف العيش، وإذا بكل منهما يجد عند صاحبه السلوى والعزاء، وتكون العبارةُ الأثيرة: حطّ همَّك على هَمي، أصدقَ تعبير عن التخَفُّف من الحمولِ في رِفقة صديق.
• • •
بعضُ الأشياء تبقى في أماكنها ما رحلَ صاحبها؛ لا يحركها شخصٌ ولا يطلُّ عليها أحد. تمُر عليها الأيامُ وربما السنون، فإن تصادف العثور عليها قيل إنها لم تزل على حَطَّة يده؛ والمعنى أنه آخر مَن لمَسها ومَن أسكنها مَوضِعها، وكأن فيها بعضًا من روحه.
• • •
إذا تألق شخصٌ بعمله، صار مَحَطَّ الأنظار. رياضيٌ بارع، مُمثلةٌ قديرة، مُدير ماهر أو وزير فاهم؛ فإذا خاب العملُ أصبح الشَّخصُ نفسُه مَحلَّ سُخريةٍ واستهزاء، وربما وَجَد من يَحُطُّ من شأنه؛ والقصد أن يُهينه ويُحقره. الحِطَّة بكسر الحاء هي نقصان المنزلة والمكانة، وتلك من المَذلات.
• • •
ربما تمادى شخصٌ في طلباته وغالى، دون أن يشعرَ بالشبع، ولا حتى بقدرٍ يسيرٍ من الاستحياء، وكلَّما استجاب الناسُ له أقبل يريد المَزيد؛ إلى أن يجد مَن يواجهه ويدعوه مستنكرًا أمرَه إلى الاكتفاء: حُطّ في عينِك حصوَةَ ملح.
• • •
الحطَّةُ الفلسطينيةُ رمزٌ باقٍ للثورة، نُطلِق عليها مُسمَّى الكوفية؛ إذ لا نألف في قاموسنا العادي مُفردة اسمها الأصليّ. الحَطَّةُ بنقشها الأسود والأبيض علامةُ صُمود في رسوم ناجي العلي، ووسامٌ تحمله أعناقُ المقاومين على الأرض المُحتلَّة، وشرفٌ يلفُّ أجسادَ الشُهداء، وحلمٌ مُتجدد بين أيدي الأطفالِ والشُّبان الذين لم يتخلوا يومًا عن إرادةِ التحرير.
• • •
المَحطوطُ عليه في لغتنا اليومية الدارجة؛ هو الشخصُ المَقموع أو المَقهور لسببٍ من الأسباب، ثمَّة ذِلة تستبقيه في وَضعٍ لا يرضاه، وثمَّة ما يُعجزه عن التخلُّص من قيده. هو أضعف من مُتطلبات التمرُّد وأهون من إعلان الرَّفض.
• • •
محطاتٌ كثيرة نصادفها خلال حياتنا وربما نستعملها؛ مَحطةُ القطار التي تغيرت هيئتها مرات ومرات، ومحطةُ الميكروباص التي يمكن أن تكون في أي مكان ولو بمنتصف الشارع، ومحطَّات المترو الذي اغتيل مثلما اغتيل حيُّ هليوبوليس بأكمله. المَحَطُّ الماديّ الملموس هو مكانُ الهبوط، أما مَحطُّ الكلامِ فمَوضِع الفائدةِ فيه.
• • •
للعمر مَحطَّاتٌ مُتنوعة؛ وقليلون هم من يستمتعون بها في حينها عن حق. المُتعةُ في غالب الأحيان مُؤجلةٌ أو فائتة، كلٌّ يبحث عما مَضى أو ما سيكون، أما اللحظةُ الراهنة ففي العادة خارجة عن الوعي والشعور، لا تُجسدها إلا حساباتٌ ومَخاوف.
• • •
ربما أسرف المرءُ في الكلام عن غير قصد، أو تجاوز الحدود؛ فاستحقَّ عباراتِ النَّهر والزَجر، ولا خير من أن يصيحَ به رفيقٌ، مُنبهًا إلى السقوط الوشيك: حُطّ لسانَك في فمك. اللسانُ ما انغلق عليه الفوه وانطبقت الشفاه؛ عاجزٌ عن النطق، مَشلولٌ عن البوح، مَعصومٌ من الخطأ، مع هذا فالصَّمتُ في بعض اللحظات خطيئةٌ أكبر.
• • •
في فيلم غَزَل البنات للعبقريّ نجيب الريحاني، يسرد الباشا الواثقُ في معلوماته اللغوية ما يعرف مِن أخواتِ كان، فيُضيف إلى ما فتئ وما انفكَّ أختًا جديدة هي "ما انحلَّ"، ليبدأ المُعلم المَنكود في إطلاقِ وابل من السُّخرية المَريرة، والحقُّ أن دراما الواقعِ الذي نحياه الآن تسمح بهذه الإضافةِ القيمة؛ بل وربما تحبذ إضافةَ ما انحطَّ أيضًا؛ فاللغة لينةٌ مَرِنةٌ، تسع من احتياجاتنا الكثيرَ والكثير.