لا تبدو الحياة فى مصر على ما يرام. فالأيام القليلة الماضية حملت لنا عشرات الحوادث التى لم يخلُ بعضها من طرافة والبعض الآخر من مآسٍ فى مؤشر على تراجع شديد فى مستوى الخدمات العامة وإدارة الأزمات ومجمل أداء النظام السياسى المصرى فى إدارة الدولة والمجتمع. وهو مصير لم يتوقعه كثيرون راهنوا على رئيس الجمهورية الحالى حينما كان مرشحا قبل عام معتقدين كونه «رجل دولة» كافيا لتخليص مصر من مشكلاتها وأعطابها التى لا تنتهى، وهو ما ظهر زيفه بوضوح خلال الأيام القليلة الماضى. مصر السيسى لا تختلف كثيرا عن مصر مرسى أو مصر مبارك فيما يتعلق بإدارة الشأن العام، حيث الكوارث والأزمات والانهيارات بلا حلول، اللهم إلا من التصريحات الرنانة أو العاطفية هنا أو هناك. إزاء ذلك يكون التذكير بأصل معضلات مصر السياسية مهما فإما مواجهتها ومعالجتها أو الالتفاف حولها والتمسك بالقشور فنظل محلك سر.
• أولى المعضلات الحقيقية لإدارة الشأن العام فى مصر أنه محتكر بواسطة الأجهزة الأمنية. فالأخيرة هى التى تقرر وتقيم وتختار وتحاسب وتنتقم. التقرير الأمنى فى مصر له هيبة وأهمية تفوق ماعداه من تقارير سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية. وهو تقرير غير قابل للمراجعة أو للنقد، يسرى على رقاب الجميع وهنا معضلة كبرى. فالرؤى الأمنية على أهميتها فى كل دول العالم، إلا أنها لا تكفى أبدا لإدارة شؤون الدولة والمجتمع لأنها تقارير أحادية النظرة. تركز دوما على نوع واحد من المخاطر، وبالتالى طريقة وحيدة للحلول التصادمية فى معظم الأحوال. إذا فتكامل الرؤى هو ما تحتاجه مصر. فحينما تصبح تقارير وزارة الخارجية أو أبحاث وأوراق سياسات أساتذة الجامعات والمراكز البحثية، أو تقارير الإعلام بنفس قدر أهمية التقارير الأمنية فيمكن أخيرا أن نتحدث عن رؤى تكاملية للخروج من الأزمات.
• ثانى معضلات السياسة فى مصر، هو تأميم السياسة بواسطة أجهزة الدولة، والمقصود بذلك أن أجهزة الدولة الأمنية والسيادية تعتقد أنها صاحبة الحق الأصيل والحصرى فى ممارسة السياسة ووضع قواعدها وأسس التنافس فيها بل وتحديد مساحة كل لاعب سياسى التى لا ينبغى عليه تخطيها وإلا تم عقابه. بهذا المعنى فالمشكلة ليست فقط فى غياب الديموقراطية كممارسة ولكن فى غياب فكرة السياسة التعددية أصلا وعدم الإيمان بها بواسطة أجهزة الدولة ونظامها السياسى المحدود. فإما حزب واحد يحتكر السياسة كما كان الحال أيام عبدالناصر، أو تعددية حزبية مقيدة وشكلية، كما كان الحال أيام السادات ومبارك، أو إلغاء أطر ممارسة السياسة من برلمانات وانتخابات من الأصل كما هو الحال منذ ٢٠١٢ وحتى الأن. حينما يمكن الضغط على الأجهزة السيادية لتتنازل عن احتكار السياسية والعمل العام وتحريرها لصالح تعددية سياسية تمارس عملها فى أطر ومؤسسات شفافة ومسئولة أمام الجماهير، يمكن وقتها الحديث عن بوادر ديمقراطية حقيقية فى مصر.
• أما ثالث معضلات إدارة الشأن العام فى مصر فهى ترتبط بضعف بل وبغياب أطر العدالة، ذلك أن أحد أهم وظائف الدولة منذ وضع التصورات الفلسفية لنظريات العقد الاجتماعى، ترتبط بقدرة الدولة على توفير الحماية لمواطنيها. وهذه الحماية ذات وجهين، الأول هو توفير الأمن بمعناه المادى الجماعى الملموس، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء مؤسسات للأمن الخارجى (الجيش) والأمن الداخلى (الشرطة)، أما الثانى فهو توفير الأمن بمعناه الفردى المعنوى من خلال توفير وسائل للمحاسبة والشفافية والفصل بين الناس فى نزاعاتهم أو بينهم وبين مؤسسات الدولة أو بين الأخيرة وبعضها. وهنا تأتى الأهمية الكبرى لمؤسسة القضاء فى توفير العدالة والتى تبدأ فى تقديرى منذ لحظة التحريات والبحث، مروا بالاتهام وصولا إلى الحكم بل وما بعد الحكم أيضا. وهنا لابد للجهاز القضائى أن يتمتع بصفات ثلاث، أما الأولى فهى الكفاءة فى الفصل بين المتنازعين وهى مرتبطة بكفاءة كل عناصر المنظومة القضائية بدء من ضابط التحريات ومرورا بالمحاميين، ووكلاء النيابة ووصولا إلى القاضى، وأما الثانية فهى الاستقلالية، والمقصود بالأخيرة أن يستقل جهاز القضاء عن السلطات التنفيذية والتشريعية ويكون قادرا على الحركة بعيدا عن أى تأثيرات أو تدخلات من هذه السلطة أو تلك، وأخيرا فلابد لهذا الجهاز أن يتمتع بالحيدة السياسية وأن يقف بعيدا عن الصراعات السياسية وألا يكون أبدا طرفا فيها. ومن هنا ففور توفير الحد الأدنى من العدالة فى مصر ممثلا فى رفع كفاءة أجهزة المباحث والتحريات والنيابة والقضاء وتمتعهم بكل الحماية الدستورية والقانونية فى مواجهة باقى السلطات، مع عدم تورطهم فى أى نزاع سياسى، فستكون واحدة من أكبر معضلات السياسة فى طريقها للحل.
• أما رابع معضلات مصر فهى خيانة النخبة، خيانة بالمعنى الحرفى للكلمة. النخب السياسية والمالية والثقافية فى معظمها يتمتع بأنانية مفرطة وانجذاب تام ناحية السلطة وحساباتها تحت دعاوى الوطنية. هى نخبة فى معظمها غير منحاز لقضايا الجماهير، تسمع فى الجلسات الخاصة، حيث لا كاميرات ولا فلاشات حديث يتعالى على الناس بدرجة تثير الدهشة والغثيان أيضا. هذا ينطبق على الإسلاميين، واليساريين، ولكنه بلغ مداه مع هذه النخب التى تدعى «المدنية»، ولا تفهم ما هى تحديدا تلك المدنية التى يدعون إليها ويتمسحون بها وهم يبذلون الغالى والنفيس لتأييد عسكرة الدولة والتخلص من الخصوم؟! هناك قطعا استثناءات، لكنها تغرد منفردة ومنعزلة ومنبوذة. فقط ينصلح حال مصر إذا انحازت النخبة لقضايا الجماهير وضغطت على السلطة بما لها من قدرات تعبوية لتقديم تنازلات أكثر فى طريق المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان.
• خامس هذه المعضلات يأتى بعدم الجدية والهزل الذى أصبح سمة حياة الجهاز البيروقراطى المصرى، فالكل يهزل فى موضع الجد، رضاء الرؤساء أهم من الكفاءة والانجاز، الواسطة والمحسوبية هى أوراق الاعتماد، فتجد أن الشأن العام فى مصر تحول إلى قصة هزلية سخيفة مليئة بالمآسى التى يندى لها الجبين. من يأخذ حياته بجدية فى مصر؟! حين تتحول الجدية إلى أسلوب حياة فى الدولة يمكن قطعا أن نرى مصر فى وضع أفضل.
• أما سادس المعضلات، ولا أقول آخرها، فهى تلك الأسطورة المنتشرة، والتى تقول إن العالم كله يتآمر علينا. هذه ليست أسطورة سياسية فقط ولكنها أضحت أسطورة مجتمعية تتردد بشكل يومى، وقطعا تلعب النخب السياسية المتحالفة مع السلطة دورا هاما فى ترويجها. أنظر إلى فيلم معالى الوزير الذى تم إنتاجه فى ٢٠٠٢ ولعب بطولته الراحل أحمد زكى فى دور الوزير الذى لا ينام أرقا من فساده، وهو يقول فى أحد المحافل «يا جماعة أنا عاوز أقول إن مصر طول عمرها مستهدفة وعمرها ما كانت مستهدفة زى الأيام دى.. أنا مش عاوز أقول أسرار لكن ما أعلمه أن حجم التآمر اللى بيحصل علينا شىء مفزع.. حقيقى شىء مفزع»، أتأمل فى تلك الكلمات التى كتبها بإبداع وحيد حامد فأجدها تتردد فى كل العصور منذ عبدالناصر وحتى الآن. والمثير للدهشة أن نفس هؤلاء المسئولين، وتابعيهم من نخب تحت الطلب لا يجدون غضاضة أبدا من التقارب الفكرى والثقافى والاقتصادى والعسكرى من هذا العالم المتآمر علينا. حين نكف عن ترديد أو تصديق حجج المؤامرات السخيفة والمستهلكة سنتمكن من المحاسبة والمساءلة والعقاب إذن!
قطعا طريق المعضلات لا ينتهى، فلم أذكر بعد تجارة الدين ورجاله الرائجة والمتواطئة مع شمولية السلطة وعنفها وبطشها وكهنوتها. ولم أذكر أيضا كم العنصرية والتفرقة التى يتعرض لها المواطن الذى لا ينتمى للأغلبية المسلمة. ولا الضغوط والقيود التى تتعرض لها السيدات والإناث أو الوضع المزرى، الذى أصبح يعانى منه الفقراء. وضعت فقط عناوين عريضة لبعض معضلاتنا والتى لن تنتهى إلا بتحرير البيئة السياسية. أما متى وكيف، فقد كتبت من قبل وكتب غيرى وما زال يكتب كثيرون. المشكلة ليست فى الحلول ولا فى طرق المواجهة، ولكن فى توافر إرادة الإصلاح والتغيير، وهى إرادة محكوم قبل أن تكون إرادة حاكم.