قُصوُر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قُصوُر

نشر فى : الجمعة 3 مايو 2019 - 10:25 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مايو 2019 - 10:25 م

يقاوم الجسمُ الساكن الحركةَ ويتشبث بالبقاء على حاله؛ ظاهرة فيزيائية عرفت منذ قديم الزمن، واصطُلِحَ على تسميتها بالقصور الذاتيّ، وفيها صكَّ نيوتن قانونه الأول. مُقاومة الحركة طبيعة أصيلة في كل جامد، وأحيانًا في البشر؛ كثيرون يفضلون الراحةَ والخمول، ويجدون في إحضار كوب ماءٍ تعبًا ومشقة. الجلوس عند هؤلاء أفضل مِن الوقوف، والوقوفُ أفضل مِن السير، واستخدام وسيلة نقل خاصة أو عامة؛ أفضل بالطبع مِن استخدام القدمين، يُفلت مِن هذا التفضيل الأطفالُ، وندرةٌ مِن كبارٍ؛ لا يطيقون سُكونًا أو قصور.
***
إذا كانت الذات مصدرًا للقعود مرات، فهي على النقيض مرات أخرى. يسأل واحد صاحبه عن أخباره، وعما أنجز مِن أهداف، فيُجيب الأخير في استسلام أنه يمضي في حياته بالدفع الذاتيّ. المقصود في العادة أن الأمور ليست على ما يرام، يسير الواحد في طريقه؛ فقط لأنه اعتاد أن يسير، لا يحفزه شيءٌ خارجه، ولا يحرضُه سوى دافع داخلي، يفرض عليه حركة غريزية ونمطيّة الطابع، يمكن وصفُها بالسلبيّة إن جاز التعبير، مع ذلك؛ تظل في رتابتها أفضل من التجمُّد والقصور.
***
حين يتقدم بنا العمر، تتخاذل العينان وتتراجع قدرتهما على الإبصار، يختبر الطبيب عدساتهما ومدى مرونتهما، وتسجل الآلات قياساتها، وتأتي النظارة تعويضًا عن المفقود. قصور النظر العضويّ يحدث تلقائيًا في الكبر، أما قصور النظر المجازيّ فلا يرتبط بسِنّ. قد تصيب الرؤيةُ المَعطوبةُ المرءَ في شبابه أو شيخوخته؛ فتُعجِزه عن اكتشاف ما هو واضح جليّ. يجد الأشياءَ أمامَه مُهتزةً مُتداخلة، لا يظهر جميلُها مِن قبيحها، ولا تُصلِح النظارةُ مِن الحالِ.
***
تحمل معاجم اللغة العربية معاني عدة للقصور وما ارتبط به مفردات؛ الاقْتصارُ على الشيء هو الاكتفاء به، والتقصير في أمر هو التواني فيه، وإذا قال واحد لآخر قصرت عن أداء حقك، فالقصد أنه لم يفِ به، ولم يعامله بما توجب عليه. يقال قَصْرُك أَن تفعل كذا؛ أَي غايتك وآخر أمرك ومنتهى استطاعتك، وأقْصَرت عن أمر أي كَففت عنه مع القدرة عليه، فإذا عجزت عن أدائه وافتقرت إلى القدرة على بلوغه، صرت إذًا في حال القُصور.
***

قصور الهمَّة الذي أصاب العديدين مما يلفت الانتباه، ويدعو إلى التريث والدراسة؛ فأكم من خطط نطرحها وطموحات نفصح عنها؛ لكنا لا نشرع أبدًا في تنفيذها. الأسباب وافرة ومتوفرة، والمناخ العام يقوض المساعي ويطفئ الحماسة، بل ويجهض الأحلام قبل اكتمالها؛ لكن الانسحاب ورفع الرايات البيضاء بمنزلة إعلان للعجز والقصور، والقصور شيمة مَن تجمَّدت إرادَته وشاخت. ثمّة حركةٌ ولو ضئيلة، تظلُّ مُمكِنة مَهما تعقَّدت الظروف، وهناك مَعركةٌ جديرة ولا شكّ بالخوض.
***
"والله ما قصرت" عبارة صارت مِن لوازم الحديث منذ نطقها الكوميديان محمد هنيدي، وتحوَّلت إلى تعليقٍ هزليّ، يُراد به أحيانًا عكس مَنطوقه. التقصير في أمر ما، يعني أن استدراكَه كان بالإمكان، وأن المُقصّر مُخطئ؛ يقع عليه اللومُ والعتاب، ويتحمل مَسئولية فعله، وعلى هذا الأساس صِيغَت في القوانين تُهمةُ الإهمالِ والتقصير؛ يُدان صاحبُها وينالُ الجزاءُ، لكن العرفَ جرى في أنظمةِ عمادها الفساد والاستبداد؛ على أن يحمل الأقلُ شأنًا تلك التُهمة، وأن يُعاقَب على ما أهملَ الكبار.
***
ثمّة توصيف طبيّ تلوكه التقارير والأفواه، وتعده مِن مُبررات الوفاة بذاته، رغم أنه عرضٌ لا مَرَض؛ ذاك هو "قصور الدورة الدموية". لا يذكر أحدٌ ما جعلها تَقْصُر، ولا يُصَرَّح أغلب الأحوالِ بالسبب؛ إذ مِن الأسباب في العادة ما يستجلبُ القيلَ والقال، ويدفع إلى السينِ والجيمِ والتاء، خاصة إذا كان المُتوفى في عُهدة آخرين، يُفترَض بهم رعايته.
***
القَصْرُ في بعض المَعاجِم القديمة هو كُل بيت مِن حَجَر، وقد اكتسب وصفه هذا حين كانت النساءُ تُقصَرُ فيه؛ أَي تُحْبس، والمرأةٌ المَقْصورَةٌ هي المحبوسَةٌ بين الجدران، لا يحقُّ لها أن تغادرها. مَرَّ ذاك الزمنُ وانقضى، وصارت المباني مِن الخرسانةِ والحديد لا مِن الأحجار، ولم تعد النساءُ وحدهن المَحبوسات، بل شاركهن رجالٌ وأطفال.
***
ليس البشرُ وحدهم المَوصومُون بفعل القصور ومُشتقاته؛ إذ يقال قصُر الوجعِ أي سكن وانحسر، وقَصَرَ السهمُ أي لم يصب هدفه ولم ينته إِليه، أما أن تقْصُر الشرايينُ التاجية، وتغدو شحيحةً على القلب، تحرمه احتياجه مِن الغذاء؛ فداءٌ يعانيه ملايين البشر بأنحاءِ العالم، بعضُهم يشكو ألمًا بالصدر وضيقًا، والبعضُ الآخر لا يشعر بسوء، ولا يدرك ما يعاني إلا في نوبةٍ عصيبة.
***
مِن بليغ القول أن القَصْر هو الغايةُ والحَبْس في آن؛ لأن المرءَ إذا بلغ غايتَه صار حبيسَها، والحقُّ أن بلوغَ الغايةِ مما يشتاق إليه الفردُ في الصَحو والمنام، أما أن يغدو أسيرًا ببلوغها؛ فذاك مما يُقرُّه خطابُ الفلاسفةِ، وتدركه بلاغةُ الحُكماء؛ لكنه على أرض الواقعِ المَريرِ، أمر قد يعيش الإنسان ويفنى دون أن يدركه.
***
قصور العقل عن مُمَارسةِ وظائفِه عِلَّةٌ لا حيلة معها، أما قصور الناسِ وعجزُهم عن نَيلِ مَقاصدِهم؛ فذِلَّة لا ينبغي لها الاستمرار.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات