بين كازانتزاكيس ونجيب محفوظ! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين كازانتزاكيس ونجيب محفوظ!

نشر فى : الجمعة 3 مايو 2019 - 10:25 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مايو 2019 - 10:25 م

دائما ما تلح على فكرة القامات المتكافئة والمتوازية فى التراث الإنسانى؛ فى تاريخ الأدب العالمى توصف أعمال بأنها «كلاسيكية»، وأخرى بأنها خالدة؛ بهذا المعنى البسيط الواضح تحيا ملاحم هوميروس وتراجيديات الإغريق وإنيادة فرجيل ومسرحيات شكسبير والكوميديا الإلهية لدانتى والفردوس المفقود لجون ملتون وألف ليلة وليلة العربية، والديكاميرون الإيطالية.. وصولا إلى دون كسشوت ثربانتس وروايات القرن التاسع عشر والعشرين.

فى الأدب العربى الحديث والمعاصر لدينا نجيب محفوظ بلا منازع الذى لا أتردد فى أن أضع اسمه ضمن الكتاب الأهم فى تاريخ البشرية، وفى الأدب اليونانى الحديث هناك عملاق ضخم اسمه كازانتزاكيس؛ الذى لم يحصل على جائزة نوبل، لكن أعماله ورواياته أهم بكثير جدا من أعمال حفنة معتبرة نالوا الجائزة العالمية، ولا يتذكر أسماءهم أحد على الإطلاق!

قبل فترة أورد الصديق الكاتب والروائى هشام البواردى، على صفحته الشخصية على «فيسبوك»، نصا مقتبسا من رواية «زوربا» العظيمة لكازانتزاكيس؛ يقول فيه:

«كان هذا المكان الكريتى مماثلا ــ فيما بدا لى ــ للنثر الجيد: صياغته محبوكة موجزة فى كلمات قليلة، متحررة من الثراء اللفظى، ومن الطنطنة التى لا ضرورة لها، قوى ومتماسك. كما أن صياغته لجوهر الأشياء تتم بأيسر الوسائل، ليس به تلاعب ولا حذلقة، ولا يميل لاستخدام حيل بعينها ولا يلجأ إلى البلاغة والمحسنات البديعية، إنه يقول ما يريد قوله بصلابه رجولية. ولكن وسط خطوطه هذه الصلبة القاسية يمكنك أن تلاحظ ــ فى خضم هذا الموقع الكريتى ــ اللطف والوداعة والرقة غير المتوقعة...«إنها كريت»، تمتمت هامسا «أجل إنها كريت!»..

(من رواية «حياة ألكسيس زوربا».. نيقوس كازانتزاكيس).

فى المقابل، سنجد نصوصا دالة لنجيب محفوظ، وهو يتحدث عن «مصر والمصريين»؛ يسأله المرحوم غالى شكرى فى حوار معه: ما هى رؤيتك المصرية؟

يجيب نجيب محفوظ: عرف الشعب المصرى على مدى تاريخه صنوفا من القهر والاضطهاد، فتكونت لديه «شخصية» لها معالمها المميزة كالصبر الذى استمده من الحياة الزراعية، والصمود الذى يتغلب على الفناء.

وهو لا يعتدى على الآخرين بل هو مفعم باللطف والإنسانية وحسن المعاشرة. ولكنه من جهة أخرى اعتاد القهر فاكتفى بالسخرية بدلا من الصراخ. وخفتت لديه إلى حد ما حاسة المقاومة، واضطرته الحاجة إلى الفهلوة والنفاق. وهى رذائل تحتاج إلى مساحة من الحرية حتى يتخلص منها.. ويزيد الأمر تفصيلا «إن أى نقائص فى الشخصية المصرية ــ كالقدرية وندرة الروح العلمية والسببية ــ فى كثير من الأحيان، إنما ترجع إلى ما ورثته من عهود الظلام التى شملتها آلاف السنين.

ثم فى حوار آخر، نادر، أجراه معه المرحوم الفريد فرج، يقول:

«المصريون لطاف وأهل مودة، يحبون الحياة ويعشقون مسراتها وبخاصة المسرات الحسية، وفيهم شىء من طبيعة النمل، ذلك هو دأب الواحد منهم، وحتى لو لم تكن همته عالية، إلا أنها همة متصلة باستمرار تثمر فى النهاية عملا ضخما. ومن صفات المصريين العجيبة، أنهم تمرسوا بالاستبداد، وهم من أقوى الناس على كراهيته وعلى الصبر عليه، إنهم يحتملونه كما يحتمل الشخص مرضا مزمنا لا يحبه ولكن يصبر عليه.. يخيل لى أنهم من أكثر شعوب العالم إحساسا بالحاكم. وسبب ذلك أن الحاكم كان له دائما وفى كل العصور أثر فى كل تفاصيل حياتهم اليومية»..

الاثنان؛ نجيب محفوظ ونيقوس كازانتزاكيس كانا من أصحاب المواهب الكبيرة جدا جدا؛ وهما معا قررا بإرادة لا تلين أن يديرا هذه الموهبة ويستثمراها أحسن استثمار.. فكانت الثقافة، وكانت القراءة، وكان الوعى الذى لا يكف عن التحديق بدهشة وتمعن فى كل شىء.. بالإضافة إلى أنهما معا كانا من النافذين لروح وجوهر الثقافة التى ينتميان إليها. نجيب محفوظ الذى قال عن نفسه إنه ابن حضارتين تزاوجتا معا «الفرعونية» و«العربية الإسلامية»، وكازانتزاكيس ابن الثقافة اليونانية الهيلينستية الكريتية المتميزة، فى نصه الرائع الذى أوردناه قبل قليل كيف استخلص جوهر هذه الثقافة وهويتها المتفردة..

نجيب محفوظ هو الذى وضع يده باقتدار على ما يمكن وصفه

بـ«الهوية المصرية» فى حركيتها وتعدديتها وديمومتها وأبدعها فنا وروايات.. وكازانتزاكيس فعل الأمر ذاته فى الثقافة اليونانية..

كلاهما كان من أكبر الكتاب فى تاريخ الإنسانية..