أتابع منذ أسبوعين نقاشات على شبكات التواصل الاجتماعى فى بلاد مختلفة أقل ما توصف بأنها عنصرية وتميز على أساس اللون أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. تتفاوت اللغة المستخدمة بين عنصرية مباشرة تتهم الناس بأصولهم أو عرقهم وبين تعليقات تتخفى وراء الحرص على المكان أو على طابع الحى أو المجتمع، وادعاء الخوف على من يتم التمييز ضده أن «يتوه» فى المجتمعات الجديدة التى يبدو أنها غير مرحبة به، فمن الأفضل أن يعودوا إلى أماكنهم الأصلية.
• • •
رغم امتلاء الفضاء الأزرق على ما يبدو حاليا بخطاب أراه عنيفا ولئيما، أظن أن أكبر تقدم فى العلاقات الإنسانية فى السنوات العشرين الأخيرة هو خلق آلية مجتمعية، أحيانا مدعمة بالقوانين، ضد التمييز والعنصرية. فرأيت هذا الأسبوع بالمقابل مثلا مقاطعة لإحدى أهم المناسبات الاجتماعية فى نيويورك، وهو الحفل الخيرى السنوى الذى يقام فى متحف المتروبوليتان لصالح متحف الأزياء. فقد قاطعت مجموعة شخصيات ووسائل إعلامية الحفل هذه السنة بسبب تكريمه لمصمم الأزياء العالمى كارل لاجرفيلد، وهو الذى عمل فى أهم دور الأزياء قبل أن يطلق مجموعته باسمه، وقد نقل عنه الكثير من المواقف التمييزية والكلام العنصرى الذى يرسخ صورا نمطية عن النساء واللاجئين وغيرهم من الفئات المستهدفة عموما فى الخطاب العنصرى.
• • •
أعود إلى سنوات الطفولة والمراهقة لأستعيد أمثالا شعبية وتعليقات يتم تناقلها ضمن نطاق العائلة والمجتمع الصغير (أى الدوائر الاجتماعية التى أنتمى إليها) وأراها اليوم شديدة التمييز ضد فئات بعينها: سمر البشرة، الفئات الأضعف ماديا وطبقيا فى المجتمع، النساء، الأقليات الدينية والعرقية، الوافدون ومن ضمنهم العمالة الأجنبية أو اللاجئون، باختصار كل ما هو مختلف عن الأغلبية أو من يظهر شكلا أو تصرفا يتم استهجانه لأنه لا يتماشى مع المألوف، والمألوف هنا عادة ما يكون فضفاضا: هو مألوف بحكم الممارسة المجتمعية المبنية على الثقافة الدينية والاجتماعية شبه الموحدة. أو كما وصفتها صديقة أوروبية عاشت فى الشرق طويلا: فى هذه المنطقة ما يهيمن هو مبدأ «بصير أو ما بصير» أى يجوز ولا يجوز (قد يكون الحكم على أساس دينى أو شرعى أو عرف اجتماعى).
• • •
حين بدأت الأزمة الأوكرانية، رأيت تعليقات كثيرة على شاكلة «أهلا بالأخوات الأوكرانيات إن أحببن اللجوء فى بلادنا بدل من يلجأون إلينا بالعادة»، وهى تعليقات رأيتها شديدة العنصرية والذكورية وناقشت من يتناقلها، بل وحشدت أصدقائى ممن أشبههم فكريا لمحاولة وضع حد لهذا النوع من التعليقات المهينة. قبل الأزمة الأوكرانية تابعت طبعا نقاشات طويلة حول اللاجئين عموما فى المنطقة رأيتها عنصرية، تماما كما أتابع نقاشات أراها طبقية حول تغييرات تطال أحياء عشت فيها فى مصر وسوريا ولبنان وغيرها.
• • •
مناهضة التمييز من أصعب المعارك، ولكنها معركة تم إحراز تقدم هائل فيها عالميا فى نصف القرن الأخير. التمييز من أكثر المفاهيم تعقيدا إذ تتحكم به قواعد قد يظن الكثيرون أنها غير قابلة للنقاش: مكانة المرأة فى المجتمع، تميز عرق أو لون بشرة أو دين على غيره، قوامة فئات فى المجتمع على غيرها، أدوار مخصصة لعلية القوم وأخرى يقوم بها من «لا يجب لمسهم» (وهؤلاء فى قاع السلم المجتمعى فى بلاد مثل الهند أو نيبال مثلا). مناهضة التمييز تفرض التخلى عن قواعد وأعراف تم التعامل معها على مدى قرون أو عقود أو سنوات على أنها مقدسة وتم فرضها على المجتمعات، من أسطورة تميز العرق الآرى الذى فرضها هتلر على تميز فئة البراهمن أو الكهنة عند الهندوس أو تفوق البيض على سمر البشرة فى التاريخ الأمريكى حتى بدأت حركة الحقوق المدنية التى أدت إلى قوانين ضد الفصل العنصرى فى الأماكن العامة وغيرها.
• • •
مناهضة التمييز تبدأ بتغيير مصطلحات قد تكون متداولة دون سوء نية إنما هى ترسخ لفكرة تميز أو دونية بعض الفئات، كما تكون مناهضة التمييز من خلال الامتناع عن المشاركة بتعليقات غير مضحكة البتة عن شكل شخص وطوله وعرضه ولونه بغض النظر عن امتعاضنا من تصرفاته. تطور أى مجتمع يعتمد على إيمانه بحق الجميع بالحصول على فرص للتقدم من خلال التعليم والعمل الجاد والاحترام وليس من خلال الانتماء إلى طبقة أو فئة دينية تعتبر نفسها الوكيل الحصرى للتقدم والرقى.
• • •
البلاد التى أحرزت تقدما هى تلك التى تحمى قوانينها الفئات المجتمعية كلها فتجعلها متساوية فى الحقوق والواجبات، وهذا النجاح أصلا نجاح هش كما نرى فى كل مرة يتغلب فيها الخطاب الشعبوى على الخطاب العقلانى حتى فى أكثر الدول تقدما. ففى سنوات الإدارة الأمريكية السابقة، استطاع الرئيس السابق أن يعيد لغة عنصرية كان المجتمع قد تخلى عنها أحيانا بسبب القانون وأحيانا بسبب قدرة الرأى العام على تهميش من يستخدم ألفاظا عنصرية.
• • •
نفهم إذا أن التمييز والعنصرية أسهل بالتداول من التسامح والقبول بالاختلافات عند معظمنا، إذ يتطلب القبول بالاختلاف الكثير من العمل داخل كل منا والتخلى عن اعتقادات شخصية راسخة وهذا ضد طبيعة العقل الإنسانى عموما. أتذكر اتصالا هاتفيا تلقيته مرة فى شبابى من سيدة لا أعرفها سألتنى فى بداية المكالمة إن كنت فلانة فقلت نعم، فسألتنى إن كنت طويلة وبيضاء البشرة كما وصفنى أحدهم حين سألت عن عروس مناسبة لابنها السفير. أترككم مع محاولة أن تتخيلوا التعبير على وجهى وأنا أمسك بالسماعة وقد خرست تماما، وهو شىء من النادر أن يحدث لى.
كاتبة سورية