قامُوس العُقلاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس العُقلاء

نشر فى : الجمعة 3 مايو 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مايو 2024 - 6:15 م

احتدم النقاشُ واستفزَّ أحدَ الأطراف رفاقَه وجادل طويلًا، ولما أعيتهم الحِيَلُ واستعصى إقناعه، أشاحت امرأةٌ ضمن الجالسين وهي تقول: عَقلك في راسك تَعرف خلاصَك. كانت عبارتُها نقطةَ نهايةٍ وإيذانًا بفضّ الاشتباك؛ فكلٌّ يحملُ رأيَه وكلٌّ يَحوزُ من الأسبابِ والمُبررات ما يُؤيد موقفَه، ولا حاجة إذًا لبذلِ جَهدٍ لا طائلَ مِن ورائه.

* • •

عَقَلَ الشيءَ أيّ فهمَه وأدركَه، وربما أيضًا وَزَنه وقيَّمه. الفاعلُ العاقلُ هو القادرُ على التَّمييز، والمَعقولُ هو المَفعول به؛ أيّ المُمكِن الذي يتأتى استيعابُه، أما العقلانيَّة فمنهاجُ عَصرِ التنوير الذي قدَّم العقلَ وغَلَّبه على العاطفة. إذا قيل عَقَلَ الرَّجل الدابة؛ كان المعنى أنه قيَّدها، وإذا عَقَل خَصمَه فقد شلَّ حركته وأوقعَه أرضًا.

* • •

بعضُ المرَّات تظهر على الواحدِ أعراضٌ عجيبةٌ لا يفهمها إلا مَن قرأ حولها أو دَرسَها أو مرَّ بخبرةٍ مُشابهةٍ لها. يقولُ المحيطون عن صاحبِ الأعراضِ إن عقلَه طارَ أو خَفَّ، والحقُّ أنه على النَّقيضِ قد ثقُلَ وباءَ بما تعذَّر عليه حَملُه أو التعامُل معه.

* • •

يرى هيجل أن براعةَ العَقلِ هي براعةُ المشاعِر، وهو ما يبدو أن العلماءَ قد اصطلحوا على تسميته بالذكاءِ الاجتماعيّ؛ نوع مائزٌ يختلف كثيرًا عن الذكاء الرياضيّ أو الفيزيائي مثلًا؛ إذ يقود المرءَ نحو انتقاءِ فعلِه وكلامِه، ونحو فهمِ الآخرين وتلقّي ما لا يُفصِحون عنه، وفي هذا الإطارِ يقول الشاعرُ: انظُر بعقلِك إنَّ العينَ كاذبةٌ .. واسمع بقلبِك إنَّ السَّمعَ خوَّان.

* • •

إذا عُرِف المَرءُ بين الناس برَجاحةِ الفِكر ورَزانةِ القرار؛ أشادوا به ومَدحوا عقلَه الكبير، أما إذا أتى مِن التصرُّفات بكلّ تافهٍ مأفون؛ مَصمَصوا شفاهَهم وذكروا عقلَه الصَّغير، والثابت أن حجمَ المُخ في معدله الطبيعيّ لا يُدلل على ما للعقلِ من قُوة، ولا يعكس وزنُه عملَ صاحبه. كثيرون هم أصحابُ العقولِ الصَّغيرةِ مجازًا؛ تراودهم بعض المرَّات أحلامٌ ضَخمة، ولا يُسفر اجتماع النقيضين إلا عن مأساةٍ مُخيفة.

* • •

الكَّبير العاقلُ وَصفٌ لأوَّل مَولود؛ ليس عن صِفاتٍ جَسديَّة ومَعنويَّة حاضرةٍ مَرئية؛ بل عن رجاءٍ يحدو الأهلَ تجاه باكورةِ الأبناء والبنات. غالبُ الأحيان يكون الكبيرُ أقلَّ حِكمةً مِمَن يليه، يتَّسم بشيءٍ من السَّذاجة وقِلة الحِيلة، لكنه يظلُّ حاملًا اللقَب ما حَيا، ساعيًا لاستيفاء خصائصِه وإن أنهكته المُحاولة.

* • •

أذكر ضِمن ما قرأت في أيامٍ بعيدة؛ بعضَ مَسرحيات الكاتبِ رومانيّ الأصل أوجين يونيسكو التي تنتمي إلى عالمِ اللا مَعقول. أذكر كمَّ انبهاري بها وأنا بعد طالبةٌ في المَدرسة، وشغفي باختراعِ أجواءٍ غير تقليديَّة للأحداثِ العادية. أدرِك الآن وبعد مرور أعوامٍ طويلة؛ أن العالمَ العَجيبَ في حينه بات اليومَ طبيعيًا، لا يدعو لدهشةٍ ولا يستدعي لفتةً ولا يثير انتباهًا. أدرِك أنه قد صار لدينا أكثرَ مِن يونيسكو؛ يعبثُ بأدمغتنا كل صَبيحة، ويتركنا في حالٍ مُرتبكة وعَصيَّة على التَّوصِيف.

* • •

كلما أنتج العَقلُ أفكارًا ذات قيمة، كلما قلَّ عملُ اللسان وتراجع دورُ الكلام؛ والعكسُ قد يكون أيضًا صحيحًا، ولا أكثر من الثرثارين الذين لا يُضيفون إلى الحياةِ سوى أوجاعِ الرأس.

* • •

إذا أوشك الواحدُ على ارتكاب تصرُّفٍ أهوج؛ سارع مَن حوله لتهدئته وإرجاءِ ما قد يكون فيه ضَررٌ مُحقَّق: تعقَّل؛ أيّ تأنّى واصبر وفَكر قبل أن تُقدِمَ، فإن مضى ولم يستجب؛ سأله الناس بعد ذلك مستنكرين: عقلك كان فين؟ الإجابة معروفة لا ينتظر السائل أن يسمعها؛ فبعض الأحيان يتنحى العقل جانبًا ويترك الزمام منفلتًا، وإذا كان طبع البَشر أن يبحثوا عما يعفيهم من المسئولية، وأن يعزوا أخطاءهم إلى القوى الغيبية؛ فإن المَوروثَ الحكيمَ يُقيد مساعيهم ويطلب منهم أن يسلكوا الطريقَ الأصعب: اعقلها وتوَكَّل.

* • •

حين تُقدَّم النصيحةُ لامرأة؛ فإن الناصحَ قد يبدأ بإغرائها عبر المَديح الشهير: عاقلةٌ وكاملة. هذه العاقلةُ الكاملةُ يُراد منها على الأغلب أنتقبلَ حَقنَ إرادتِها ووأدَ رغباتِها والانصياع لرأي الآخرين، والظنُّ أنزمنَ الاستجابة للمدائح الخادعةُ قد ولَّى، وأن النساءَ ما عُدن يُنصتن لذياك حديث. 

* • •

بعض المرَّات نستخدم تعبيرَ "العقل زينة" والحقيقة أن الجملة القصيرة تحملُ أكثر من وجه؛ فالزينة قد تكون مظهرًا فارغًا، مجرد وسيلة للتجمُّل لا أكثر ولا أقل؛ لكنها في مرات أخرى تكون جزءًا أصيلًا من بهاءِ صاحبها، زوالها لا يشوه مرآه فحسب؛ بل يفسد أيضًا جوهرَه.

* • •

العقلُ والجنونُ ثنائيةٌ جاذبةٌ ومُخيفة في الوقت ذاته، وقديمًا قيل إن العدوَّ العاقلَ خيرٌ ولا شكَّ من صديقٍ جاهل، والجهلُ هنا ليس نقيضَ العقل؛ إنما إشارة لما قد يؤدي إليه غيابُ المَعرفة من حماقات، ولا تُنسى في هذا السياق حكاية الدُّبِ الذي قتل صاحبه من فرط الحُبّ؛ إذ تتكرَّر أمام أعيننا مرارًا ولا تنفكُّ تُثبت في كل مَرَّة صحتَها، وأكم من ضحايا للدُّب وأكم من دُببة تمضي بيننا على الأرض؛ دون حَيطةٍ أو حذر.

* • •

بعض الناس تبقى أفكارُهم سطحيةً ضحلًة مُفتقرةً إلى النُّضج. هؤلاء مَحرومُون من تكوين علاقات عميقة ومنطقية بين مختلف الأشياء، ومن الربط بين الوقائع والأحداث، وكثيرًا ما ينال أحدهم وصفًا موجعًا بأن عقلَه لا يزيد عن حَجم السِمسِمَة، والقصد أنه ضيقٌ عاجزٌ عن استيعاب ما تعقَّد من أمور، وبناءً على هذا التشخيص؛ يترفَّع الناسُ عن مؤاخذته.

* • •

قيل ضِمن ما قيل لتمييز الإنسانِ عن الكائنات الأخرى إنه حيوانٌ يَعقِل؛ أي يملك القُّدرةَ على مواجهة العقباتِ وابتداع الحلول، ثم تبين أن ثمَّة حيوانات تَعقِل هي الأخرى وإن بدرجات متفاوتة. قيل كذلك إنه حيوانٌ ذو تاريخ؛ يستفيد من تجارِب الماضي وخبراته ويُوظفها في بناء مستقبلِه، ثم تبيَّن أيضًا أن كثيرَ الناس لا يعبأ بالنظر لما تركَ خلفه، ولا بدراسة ما استوى أمامه؛ إنما يسير في طريقِه المَرسومة مثله مثل بعير يحفظ خطواته ولا يحيد عنها.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات