انخلع قلبى وأنا أسمع شهادة أحد «المُحرَرين» من أبطال قافلة الحرية عبر شاشة قناة الجزيرة. شهادات الكل تتضمن أهوالا إنسانية تثير مشاعر متضاربة تجمع بين الزهو والغثيان، الزهو بهذا الإصرار رغم كل المعاناة على إرسال السفينة تلو السفينة تمخر عُباب البحر وتواجه مصيرا مجهولا إلا من رسالة مفادها: سنكسر الحصار. والغثيان من هذه النفس الصهيونية التى تتلذذ بصفع شيخ أو تكبيل امرأة أو حرمان الكل من قضاء حاجتهم، فهنيئا لأصحاب تلك النفوس ببطولاتهم.
لكن شهادة واحدة أحسست بها تهوى بى إلى قاع بئر سحيقة ما لها من قرار. قال أحدهم: قام جنود العدو بإنزال عسكرى على سطح السفينة التركية وأمروا ربانها بأن يحول مسارها شطر ميناء أشدود الإسرائيلى فرفض، فما كان منهم إلا أن صوبوا فوهة مسدس إلى رأس طفله ذى العام الواحد فرضخ. اقتادوا الرجل إلى حيث يوجد مكبر الأصوات وأرغموه على أن يعلن للركاب وقوع السفينة فى قبضة الجنود الإسرائيليين.
يا الله! مسدس فى رأس طفل عمره عام.. أفبعد هذا الجنون جنون؟ تقمصت شخص الربان وهو يشاهد إخضاعه بتلك الوسيلة الخسيسة، تتصارع فى داخله عشرات الأفكار يحثه بعضها على أن يستسلم لئلا يهشمون رأس الرضيع، وتزرع أخرى الشك فى نفسه من أن ينجو بابنه بعد الاستسلام، أو لم تفعلها إسرائيل من قبل؟ أى ميزة لطفله على أطفال بحر البقر وأبناء الانتفاضة ومدرسة الناقورة؟ أولم يُقتل الطفل محمد الدُرّة وهو يلوذ بحضن أبيه؟ مسكين هذا الربان أنكَرت عليه أبوته بشدة أن يكبد ابنه ثمن اقتناعه هو بالقضية الفلسطينية.
فلماذا اصطحبه إذن فى الأصل؟ هل أشفق عليه من حياة اليتم إن قضى هو وزوجه على متن السفينة؟ هل أراد أن يكون وجه رضيعه آخر ما يودع به العالم إن قُتِل هو؟ هل لم يشأ أن يحرم طفله حليب الأم حتى وإن كانت تلك هى آخر قطرات الحليب التى يتأود بها؟ هل كان يرجو أن يُحْشَر وأسرته الصغيرة معا وفى اللحظة نفسها؟ مسكين هذا الأب.
كانت رسالة ابن الربان من أكثر الرسائل التى بعثت بها تجربة «قافلة الحرية» بلاغة وإيلاما لكل من يتحدثون عن ميثاق حقوق الطفل واتفاقية جنيف والشرعة الدولية. لكنها لم تكن هى الرسالة الوحيدة، فمن أجمل ما بعثت به من رسائل ما يتعلق بذلك المشترك الإنسانى الذى جمع المسلمين والمسيحيين وبعض اليهود فى قافلة واحدة.
البعد الإسلامى للقضية الفلسطينية ليس هو بعدها الوحيد، وإلا ما اشترك فرنسيون وإسبان ويونانيون فى تحدى الحصار، وما صلَّى المطران كابوتشى مطران القدس السابق من أجل نجاة القافلة ومن فيها صلاة مشتركة مع مسلمى القافلة لمدة عشرين دقيقة. حياة الإنسان تسمو على التعصب الدينى، فأرجوكم لا تختزلوا القضية بالحديث عن إحياء دولة الخلافة، وإلا فلا تبحثوا عن دعم العالم لكم. من الآن فصاعدا علينا أن نمد يدنا لشعوب العالم كما فعلوا معنا، ونكف عن مقولات الوطن أولا، فالوطن وحده لا يكفى، وما تحقق بفعل هذه الملحمة العالمية الرائعة ما كان يمكن أن يتحقق لو سَيَّرنا سفنا عربية خالصة ناهيكم عن أن تكون السفن إسلامية خالصة.
هل ما حدث يدعونا لمراجعة مفهوم المجتمع المدنى الذى اختزلناه طويلا فى المنظمات غير الحكومية؟ أظن ذلك فعلى متن سفن القافلة كان هناك برلمانيون ونشطاء سياسيون وإعلاميون ورجال دين وأناس تحمسوا للفكرة وإن لم يُعْرَف لهم نشاط سابق، وطبعا أعضاء من منظمات حقوقية، وهذا يتجاوز بكثير مكونات المجتمع المدنى المتعارف عليها.
وهل ما يحدث يبرر التفكير فى المسمى الذى أطلق قبل أعوام على «المجتمع المدنى العالمى»؟ أتصور ذلك فإن لم يكن ما حدث سواء فى القافلة أو فى مختلف عواصم العالم من تساند أخلاط البشر والأديان والاتجاهات من وراء هدف واحد تجسيدا لعولمة المجتمع المدنى، فأى تجسيد له إذن يكون؟. الآن الكل يعرف شكل علم فلسطين، اليوم تفترش أعلام فلسطين الساحات وترفعها الجموع، فأيهما يتآكل بعد 62 سنة على نكبة 1948: إسرائيل أم القضية الفلسطينية؟
بقدر ما وجدت عدالة الهدف شعوب العالم، فإنها كشفت انتهازية النظم السياسية التى تدافع عن القضية الفلسطينية فقط عندما تكون هى التى تتولى زمام قيادتها، وإلا فإن صوتها يخفت وتفعل كما يفعل «المعتدلون» فتشجب وتدين. وهنا أكتفى بمثلين: المثل الإيرانى الذى غاب عن المشهد أو كاد اللهم إلا بتصريح محمود أحمدى نجاد الذى يبشر فيه بقرب زوال كيان إسرائيل الوهمى، لكن لا صخب ولا تحرك وربما حتى لا مشاركة فى القافلة فعن نفسى شخصيا لم أسمع صوتا لأحد الإيرانيين، ولا شاهدت لأحدهم صورة بين «المحررين» من ركاب القافلة.
والمثل القطرى الذى تزامن فيه سير القافلة مع انعقاد مؤتمر «قمة مبادرة إعادة التصميم الشامل للمنتدى الاقتصادى العالمى»، هذا المؤتمر الذى شارك فيه بنيامين بن اليعازر وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلى الذى أسف من الدوحة لسقوط ضحايا. فلماذا لم تطرده قطر كما تطالب المطبعين بطرد سفراء إسرائيل؟.. أم إنكم «تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟» أبحرت سفن القافلة فأسقطت أوهاما ومخاوف وأيضا أقنعة.