حق البهجة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حق البهجة

نشر فى : الجمعة 3 يونيو 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يونيو 2016 - 9:55 م
على غير موعد قد تأتى لحظات من البهجة تقتحم على المرء خلوته وكآبته وتصنع وسط السماء القاتمة ومضات خفيفة تبدد وحشتها. ربما تكون هذه اللحظات قصيرة، لكنها عادة ما تخلف بقعة ضوء تأبى التلاشى. تدوم طويلا فى الروح، وربما لندرتها وصعوبة الإمساك بتلابيبها تغدو إذ ما تحققت كما الوشم فى الذاكرة.

للوهلة الأولى يبدو التجاوب مع هذه اللحظات أمرًا تلقائيًا، لا يحتاج منا جهدًا ولا استعدادًا، لكن الحال التى يصفها رجال ونساء فقدوا القدرة على التفاعل مع أنفسهم ومسراتهم وأتراحهم الخاصة، تشير إلى شىء أكثر عمقًا وكمونًا.

مع التقدم فى العمر يفقد عديد الناس بعضًا من الشغف وبعضًا من الحماسة وكثيرًا من القدرة على التعامل مع الانفعالات الجياشة. يصعب عليهم إنتاج هذه الانفعالات أو استقبالها على حد سواء، كما تتضاءل رغبتهم فى الاستجابة لها. يصبحون أكثر هدوءًا وأقل تحفزًا وحرارة، ويوصفون وهم على هذه الحال بأنهم أخيرًا قد نضجوا تمام النضج وصاروا متزنين. عركتهم الحياة فأخذت منهم ذاك الوهج وأضفت عليهم ما قد يُعدُّه الآخرون حكمة الزمن ورصانة المشيب. ربما حفرت الملمات فى أرواحهم تجاعيدها وأورثتهم الأفراح معرفة لاحقة بأنها زائلة ذات يوم لا محالة، فصاروا عنها عازفين.

***
لا تفرح كثيرًا ولا تحزن كثيرًا فلا شىء دائما ولا حال مستمرة. مأثور يردده هؤلاء الذين يجدون شجاعة تقديم النصح إلى غيرهم، يرشدونهم إلى طريق مُجَرَّب، شبه مضمون، لراحة النفس وهدوء البال، يصوغون أمثولات وحكايات متعددة، تحمل مضمونًا واحدًا، ربما هو قديم قدم الفلسفات الأولى؛ الاقتصاد فى المشاعر خير والإفراط شر والاعتدال والثبات علامتان من علامات الرشد والوصول.

يبدو هذا القدر من الحياد صعب المنال حتى مع المحاولة الدءوبة، ولا أعرف على وجه الدقة إن كان صحيًا أم على النقيض، فقد يحمل اختبارنا لحدة الانفعال وفورة المشاعر تدريبًا للقلب والنفس على تحمل الضغوط، واستفزازًا للعقل كى يتخذ دوره فى السيطرة على الأمور، لكن أنصار تحييد الأحاسيس وترويض الانفعالات الداخلية، يرون أن التعود على التحكم الكامل فى العواطف والأبدان وردود الأفعال كذلك، يُمَكِّنُهم من إقصاء كل ما من شأنه خرق الوقار، ويضمن لهم مكانة أَجَلّ وأسمى.

أحيانًا ما تجبرنا الظروف على كتمان فرحة أو حزن. نخشى أن نمس وجدان أصدقاء وأحباء بما يؤذى، إذ يتصادف أن تضربنا العوادى بينما هم فى سعادة جمة، وقد نملك ما يثير سعادتنا فى حين هم منفطرون همًا وغمًا، نحاول أن نوازن بين حالنا وحالهم وأن نجعل الحياة تسير. تقلص محاولاتنا من حجم الانفعال أيا كان مساره، وتجعله هزيلا منقوصًا.

***

هاجمتنى تلك الأفكار بمناسبة مسرة خاصة، قُدِّر لها أن تلحق بى وسط الأجواء المؤسية التى نعيشها ونتشربها وتضيق بها حلوقنا. كان لها أن تجلب فرحًا وسعادة غامرين، لكنها بقيت فى إطار مَحكوم لا تتخطاه ولا تكسره. قلت إننى كبرت، تقدمت فى العمر ونضجت، وكففت عن التفاعل الحيوى والانفعال ووصلت إلى المنتهى، لكنى لا أنكر أن ثمّة إحساسًا عارمًا بالبهجة طاف بنفسى راقصًا على مدار يوم أو بضعة أيام، وطغى على ألم البؤس العام وأخبار السجون، وإن ظلَّ الانشغال بالصحاب والزملاء المقيدين، وبتوقعات النجاة واحتمالات الإمعان فى التنكيل هو الأمر السائد، المزمن، الذى يبقى فى خلفية المشهد، ويكسبه عتمة وغشاوة مُرهِقَة.

على كل حال يظل بعض الناس قادرين على التفاعل مع الأحداث التى تمر بهم بما يلائمها، بغض النظر عما يحوطهم ويضربهم مِن أنواء، كما يحتفظ آخرون وإن طعنوا فى السن وتقدمت بهم الأعوام، بطزاجة المشاعر وعفويتها وعنفوانها. إنما هى خبرات شخصية متراكمة، واختيارات قد نقوم بها عن غير قصد، لكنها هى الأخرى تترك فينا أثرًا ممتدًا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات