فى القدم، وقبل تبلور الحركة النسوية كفكر وحقل للدراسات والحقوق يهدف إلى إرساء قواعد المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون وفى المجتمع، كانت تحكم العلاقات بين الجنسين لا سيما فى الفضاء العام قوانين غير مكتوبة إنما متبعة بصرامة، بات أغلبها يصنف اليوم على أنه كلاسيكيا، أو «من الزمن الجميل». إذ يحكى عن تحرك السيدات فى شوارع العواصم العربية دون أن تنالهن كلمات نابية، وتظهر صور عن جامعات دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها طالبات واقفات أمام كلية أو وسط الشجر يحملن كراسات ودفاتر. هناك طبعا جانب بصرى يستوحى الكثير من مضمونه من أفلام قديمة بالأبيض والأسود، يصور هذه المواقف ضمن الطبقات الوسطى فى المدن (أكثر منه فى الريف مثلا) فتظهر تسريحات الشعر العالية والمعقدة عند السيدات، ومناديل مثلثة تخرج من جيب السترة عند الرجال. فى الخلفية حفل عشاء أو عيد ميلاد ومجموعة تتشارك بفرحة أو مناسبة اجتماعية.
***
كانت قواعد العلاقات واضحة بحسب من عاش فى ذلك الزمن: احترام شبه مطلق للسيدات فلا يجوز لمسهن أو اسماعهن ألفاظا غير مناسبة، اعتبار حماية المرأة من أى موقف محرج هو دور الرجل الشهم، معاملة المرأة بنعومة وكأنها كائن هش من السهل كسره بكلام أو بنظرة أو حركة خارجة عن ما هو مقبول. كان هناك سياق ثقافى ومجتمعى يقضى بأن تعامل المرأة بشكل خاص يتناسب مع عدم مقدرتها على تحمل القسوة وغلاظة اللفظ والسلوك.
***
لن أدخل هنا فى عملية سبقنى إليها الكثيرون لتفنيد ما هو مناسب أو غير مناسب للمرأة باعتبارها كائن له خصوصية (أو ليس للرجل أيضا خصوصية؟)، ولن أكرس مفهوم التمييز ضد المرأة بالقول أن ثمة حماية خاصة يجب توفيرها للمرأة دونا عن غيرها، لكنى سوف أتساءل عن تراجع ما كان احتراما مفروضا للمرأة فى الفضاء العام (وأنا هنا لست بصدد البحث فيما إن كانت المرأة تحظى بالتعامل ذاته فى الفضاء الخاص). لقد تطورت مفاهيم العلاقات الإنسانية والحقوق الفردية والحريات الشخصية، وتراجعت معها السلوكيات كما يبدو. فصرنا نشهد بشكل متكرر اعتداءات بالفعل أو باللفظ على نساء أثناء تواجدهن فى الفضاء العام ساهمت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى بنشرها، لكن يبدو أن الحوادث باتت أكثر تكرارا وأقل استهجانا من قبل المجتمع، حتى بدى أن التحرش صار سمة الشارع بدل أن يكون استثناءه.
***
ماذا لو بقيت كلمتى «صباح الجمال» هما ما يستقبل أى امرأة دون ابتذال؟ ماذا لو تم الحفاظ على المسافة الضرورية بين أى شخصين وليس فقط بين الرجل والمرأة، فلم تضطر المرأة أن تشعر أن ثمة من يحاصرها طوال الوقت؟ ماذا لو تطور مفهوم الحقوق والحريات الشخصية والمساواة بين الجنسين دون أن يظهر فى الوقت ذاته سعار فى الشارع وفى الملاعب وفى أماكن العمل؟
***
لماذا كان علينا كنساء أن نختار بين أن نعامل وفق نظام غير مدون يفترض فينا رقة خاصة تستدعى احتراما من نوع خاص، وبين زمن تم فيه تدوين المفاهيم النسوية التى تؤكد على المساواة وعدم التمييز واختفت فيه قوانين غير مكتوبة كانت تفرض احترام المرأة؟ فى عصر يفتك فيه الرأى العام بممثلة بسبب لباس اعتبره الناس أنه فاضح، يتم التسامح مع رياضى أو نجم استخدم ألفاظا وأفعالا مشينة ليفرض نفسه على نساء. عجيبة هى قدرة المجتمع على جلد المرأة وتناسى جريمة الرجل فى المواقف الصعبة، هى قدرة مبنية على تصور بأن على المرأة أن تتفادى تماما التواجد فى موقف لن يكون باستطاعة أحد الدفاع عنها فيه. يعنى ما كانت قواعد غير مكتوبة فى العصر الجميل ربما كانت بالأساس مبينة على عدم رغبة المجتمع بالتعامل مع حادث يخص المرأة على أنها قضية رأى عام، لذا فلنعاملها على أنها كائن يحتاج حماية ورعاية ليس لأنها إنسان له حقوق بل لأن التعرض لها سوف يسبب لنا كارثة سنضطر أن نتعامل معها إن لم نتفاداها.
***
هل ترونى أظلم مجتمع الزمن الجميل؟ هل تعامل الرجال مع النساء وقتها برقى وذوق لأنهم امتلكوا شهامة لم تعد من صفات رجال اليوم؟ هل طغت الصبغة الأبوية على هذا التصرف أم هل كان فعلا هناك احترام يوما ما لم يعد أساسا للعلاقات بين الجنسين اليوم؟ هل فتحت حركات تحرير المرأة (من التمييز والذكورية والاعتماد الدائم على المعيل والمحرم والوصى القانونى) الباب أمام الرجال والمجتمع بالتخلى عن حدود لطالما التزموا بها، أى أن تطور الدفاع عن حقوق المرأة رافقته تصرفات خرجت إلى الملأ معلنة عن معاداتها للنساء؟
***
سوف أركز على الزمن الجميل وتصرفات الجنتلمان، وسوف أصر أن لا تعارض بين الاعتراف بحق المرأة فى المشاركة فى الفضاء العام والحياة السياسة والمهنية دون تمييز ضدها، وبين رقى فى التعامل واحترام متبادل بينها وبين الرجل. فى المرة الأولى التى دعانى فيها زوجى على العشاء، مشينا إلى السيارة ووقفت أنتظر أن يفتح لى الباب فسألنى «ألست من دعاة المساواة بين الرجل والمرأة؟ هل تريديننى أن أفتح لك الباب؟» استغربت السؤال وأجبته «أنا طبعا نسوية لكن ما الضرر فى أن أخرج مع جنتلمان؟».