نَم مُبكرًا واستيقظ مُبكرًا. الاستيقاظُ هنا بمَنزِلة فِعل أمر؛ مُتنكّر في صورةِ نصيحة، والنصيحةُ تلقيناها صغارًا بانتظام، ولا أخفي سرًا إن قلت؛ وكَرِهها مُعظمنا. مَثَّل الاستيقاظُ في ساعات الصباحِ المُبكرة أمرًا مُرهقًا وسخيفًا، ارتبط في أذهاننا؛ جيران وصديقات ورفاق، بضرورة ترك دفء الفراش ولذَّة النعاس، والإسراع بارتداء الملابس وإتمام الاستعدادات، تأهبًا للذهاب إلى المدرسة.
***
ارتبطت المدرسة بدورها بواجبات ثقيلة، وباحتمالات التورُّط في اختبارات مُفاجئة، أو التعَرُّض لحرجِ سؤال تستعصي عليه الإجابةُ، وبحصصٍ أولى تأتي ما قبل الوصول إلى كامل النشاط؛ ربما لا يسلم المرءُ فيها مِن توبيخ، يدفع على الفور إلى اليقظة والانتباه.
***
ارتبط استيقاظي المُبكر في فترات الصبا بالإذاعة وبرامجها اليومية، تطرقُ أذني عباراتها الثابتة؛ فأحفظها بحكم التكرار ولا أعيها؛ إذ أنشغل بالتفكير في بقية اليوم، وأراجع ما اصطحبت في الحقيبة، وأحاول أن أبني في خيالي عذرًا لما نسيت.
***
كثيرًا ما خُضت كفاحًا صادقًا كي أحظى بدقائق إضافية مِن الغفو؛ إلى أن يصحو الجميع، فأكون آخر مَن يقوم. فضلت الليل بلا منازع وعددته الصديق واعتدت مجالسته واكتفيت من النوم بساعات قليلة؛ رجوت دومًا ألا تنتهي عنوة، وأن أتمكن من فتح عيني بسلام وهدوء؛ لا استجابة لإلحاح، أو فزعًا من انقضاء موعد لا يمكن استدراكه.
***
انضباط الساعة البيولوجية مبهر، والنظام الداخلي الذي تسير عليه وتقود الجسد والعقل لاتباعه؛ صارم ودقيق. تكرار الاستيقاظ في موعد محدد باستخدام وسيلة تنبيه، يُصبح بعد قليل عادة لا تحتاج جرسًا ولا إنذارًا. تدق الساعة المُفترضة في الرأس؛ فيصحو المرءُ مِن تلقاء نفسه. اختلال هذا النظام قد ينشأ عن ملل وفراغ ووقت ممتد؛ لا يشغله فعل ولا يتخلله نشاط، لكنه قد يشير كذلك إلى وجود اضطراب عضوي؛ لا ينبغي أبدًا أن يؤخذ باستهتار.
***
التغيرات التي تطرأ على الساعة البيولوجية مثيرة. يقول العلماء إن ساعات النوم تتناقص بالتدريج كلما تقدم العمر، وتحلُّ ساعةُ الاستيقاظ في أوقاتٍ تشذُّ عن المألوف. ليس لدى كبار السن في العادة مسئوليات جسام؛ لا ارتباط بتوقيع في دفتر حضور، ولا تقريع من صاحب عمل يحصي خلال اليوم ما أنتجوا، ولا مهام إجبارية تضطرهم إلى التبكير بالخروج. يُستثنى بطبيعة الحال هؤلاء الذين لا يزالون يعيلون أنفسهم رغم السنون، ولا يتمكنون من التقاعس عن طلب لقمة العيش؛ والحق أن هؤلاء كثيرون. مِن بينهن عجائزٌ يفترشن الأرضَ بما في جعابهن مِن حصاد، أغلبهن قَدمن مِن قرى ونجوع على مَسافات مُتباينة؛ صَحون فجرًا كي يستقررن في أماكنَهن بسلام، ويَرصصن بضائعَهن، وينتظرن المُشترين.
***
تؤكد بعضُ الدراسات أن طبيعةَ البَشر في ساعات صحوِهم مُتباينة. هناك أشخاصٌ ليليون؛ يصلون إلى ذروة الإبداع وقمَّة التركيزِ وإتقانِ العمل في الأوقات المُتأخّرة دون غيرها، وعلى الجانب الآخر يقفُ النهاريون؛ الذين تتراجع مَقدرتهم على الإنتاج مع حلول المَساء؛ لكنهم يتألقون في ضوْءِ النهار، ويُنجِزون بوفرة، ويُقدّمون أفضلَ مُستويات اللياقة. يَجد الفريقان لهما الأنصار والمُدافعين، ويتعجَّب كُلٌّ منهما مِن مَيل الآخر ولا يجد له تفسيرًا.
***
اعتاد كثيرُ الطُلاب في كلياتهم أن يقضوا ليلةَ الامتحان صاحين مُتحفزين؛ يراجعون ما يخشون نسيانه، ويؤكدون ما حفظوا، وفي بعض الأحيان يقرأون صفحاتٍ يرونها للمرة الأولى. يظنون أن ما يدخل العقلَ على مَشارِف الإمساكِ بورقةِ الاختبار؛ هو ما سيظلُّ حاضرًا في الذاكرة، ويُغفِلون أن الذاكرةَ نفسَها مُرتَّبة مُنظَّمة، تزعجُها العشوائيةُ وتؤثر فيها، كما يرهقها التيقُّظُ المُتواصِل ويُربِك عملَها.
***
توَالت الأعوامُ وتقلَّص عددُ ساعات النوم وصار التبكير بالصَحوِ عادةً، فيما ظلَّ السهرُ على حالِه؛ مُتمتعًا بمكانة خاصة لا تزول. عدت مُؤخرًا لسماعِ المِذياع في ساعات الصباح الهادئة. أدهشني الصوتُ الرائقُ الذي لا تخطئه الأذن، والذي انبعث في ثقة معلنًا عن الفقرة التالية؛ "همسة عتاب". انتشيتُ بلا سبب واضح لسَماع اللحن المميز؛ المُقترض مِن أغنية فرنسية شهيرة مَرَّت عليها عقودٌ، وتخلَّيت طَوعًا عن همومٍ أبدأ يَومي، كما جَرت العادة، بالتفكيرِ فيها، وقررت الاستمتاعَ بالصباحِ دون قيود.