لا أذكر بين هؤلاء الذين تتابعوا على حكم مصر فى التاريخ الحديث، من لم يقدم للمحكومين صورة الأب بشكل أو بآخر، ساعيا إلى إرساء علاقة ذات نمط عاطفى بهم. عادة ما يبدأ الطريق إلى الحصول على ثقة وقبول الجماهير، بالخطاب الذى يستخدمه الحاكم أمامها وأسلوبه فى التفاعل معها.
اعتاد عبدالناصر أن يستهل أحاديثه بتعبير «الإخوة المواطنون»، وهو تعبير اتسق مع شعارات الاشتراكية والمساواة التى رفعتها الجمهورية الوليدة، وتكلم من بعده السادات، فانتقى صيغة «أبنائى وبناتى»، وهى مفردات تماشت مع الصورة التى رسمها لنفسه بعد نصر أكتوبر، رب الأسرة وكبير العائلة، أما مبارك فقد سار على نهج سابقيه معا، فجمع المفردات الثلاث، «الإخوة» و«المواطنين» و«الأبناء»، وتنقل بينها وفقا لمناسبة حديثه.
لاحقا، لم يعمد أعضاء المجلس العسكرى إلى تصدير أحاديثهم بكلمات محددة، وقد حملت بعض بياناتهم المقتضبة افتتاحية «شعب مصر العظيم»، وأخيرا استخدم مرسى فى خطابه نداءات «أحبائى» و«أهلى وعشيرتى».
وجدت خطابات الرؤساء الثلاثة السابقين صدى متفاوتا لدى الناس، بلغ أقصاه فى فترة عبدالناصر، وأدناه فى نهايات عهد مبارك، وقد أحدث خطاب اللواء الفنجرى صدى انفعاليا واسعا بين مشاهديه، حال أدائه التحية العسكرية لأرواح شهداء يناير، لكن هذا الصدى لم يلبث أن هبط إلى القاع مع خطابات الرئيس المعزول مرسى، إذ بدا أن كلماته لم تصل إلى أحد تقريبا، سوى من اختصهم بحديثه من الأقربين، وبقدر ما حازه كل حاكم من قبول، كان نسيج سلطته الأبوية يتمدد أو ينكمش، يفقد قوته، أو يبسط أطرافه ويحكمها على الجماهير.
●●●
رغم تهافته فى أواخر سنوات حكمه، ورغم نظراته الجامدة وكلماته المكرورة، أخلف سقوط مبارك أثرا يصعب إنكاره، فقد انهار رمز السلطة الأبوية الذى دام لعقود ثلاثة، وأعقب انهياره هذا انهيار مماثل لرموز السلطة الأبوية على مستويات متعددة، بدءا من رب الأسرة فى المنزل، مرورا بالمعلم فى المدرسة، ووصولا إلى رجال الدين فى كنائسهم ومساجدهم، وقد عجز أول رئيس منتخب من بعد، وهو أمر عجيب، عن ملء عرش الأب الذى خلا لعام ونصف العام تقريبا، لم يتمكن من رأب الصدع ولا من سد الثغرة المفتوحة بخطابه الهزيل.
لم يكن هذا السقوط المدوى إلا إيذانا بتحرر الجموع من فكرة وصاية الأخ الأكبر أو الأب، الذى يدرك وحده الصالح العام، ويفهم ما لا يفهمه الآخرون، والذى من حقه دوما أن يصدر الأوامر النافذة، وأن يتخذ القرارات دون مراجعة، وأن يحظى بالهيبة والتقدير، وبهالةٍ من القدسية يحفظها مركزه، فيعصم من الانتقاد بدعوى العيب والمقام المحفوظ.
ميزة انكسار السلطة الأبوية، رغم كل ما شاب الفترة الماضية من تعد على القوانين والقواعد والذائقة العامة، هى أننا عرفنا أخيرا طعم الحرية، طعم الندية مع الحاكم ولذة مواجهة الأعلى موقعا والأكثر نفوذا، عرفنا متعة الخروج عن طوق الطاعة الواجبة لتلك الرموز التى يخلقها المجتمع ثم يعبدها. لقد أدرك الناس أنهم مصدر قوة وأنهم لم يعودوا أطفالا بحاجة إلى أب، أدركوا أنهم ناضجون راشدون، قادرون على التمييز والإدراك والفعل أيضا.
●●●
هل كان هذا التغير حقيقيا؟ سؤال تصعب إجابته فى الوقت الحالى فمع ظهور بطل شعبى قادر على إرواء العطش القديم عادت صورة الأب تملأ الأفق وتحجبه وإلى جانبها عاد النسق التقليدى للسلطة الأبوية وانطلقت الأبواق والزغاريد والأفراح، كتبت الأغانى وملأت الشاشات وأنتجت الأوبريتات وتساقطت الفتيات ولعا وولها وحملت الصور على الصدور وفى الحقائب والجيوب. عادت أيضا التعمية والتغمية ومداراة المعلومات وسلكت وسائل الإعلام مسارات تزييف الوعى التى تخبرها جيدا لتسطر تاريخا جديدا.
ربما تحررنا لبرهة من الزمن، لكن من الناس من بقى ينتظر المخلص القادر على شغل المكان الخاوى، وما إن لمح الطيف المرتجى حتى سارع إلى التسليم والاحتفاء. من الناس من لم يدرك إن قوة الجموع لا تكتمل لها أسباب النجاح إلا حين تمسك فى يديها بمقاليد الأمور، وتزيح عن طريقها كل العقبات، إلا حين تقضى على سلطة الأب وعلى الرغبة الدفينة فى البحث عنها، والخضوع لها.
●●●
لا شك أن العيش فى كنف وحمى السلطة الأبوية أسهل بكثير من الوقوف أمامها، ومحاولة الحد من توغلها وسيطرتها، كما إن إلقاء المسئولية على أب يبدو قادرا مهيمنا، لأهون من تحمل مشقة تحديد المصير، ومواجهة احتمالات الفشل. ليست المرة الأولى التى نمنح فيها الثقة، ويتملكنا اليقين، وربما لن تكون الأخيرة أيضا، والسؤال المطروح فى تلك اللحظات هو، هل يكون رجوع الأب والالتفاف حوله بمثل هذا الظمأ العاطفى، وتتويجه بالهالة المقدسة مرة أخرى، بمثابة إعلان نهاية لسنتين ونصف السنة تحررنا فيهما من الوصاية التى كبلتنا لأعوام طويلة، أم تشكل خبراتنا القريبة عاملا واقيا من ندم لاحق؟.