كان النسيمُ عليلًا والفرحةُ تملأ الوجُودَ. صباح يغمره الانشراحُ، ويلونه الأملُ بألوانٍ عجيبة، وتتخلَّلَه أدهشُ الوعود. ارتدى رأفت ملابسه في ترو، اطمأن في زجاج النافذة لمرأى ذقنه الحليقة وابتسامته الودود، وطلَّته السعيدة التي لا يقلل منها شحوبُه الظاهر. هبط سلَّم العمارة مُتفاديًا الدرجات المكسورة، مُغترفًا شهيقًا عميقًا مِن هواء الشارع ذي الرائحة المُميَّزة، مُخرِجًا إياه في زفير قويّ؛ يُعلن أن رئتيه لا تزالان تعملان رغم كل شيء.
***
سار رافعًا هامته، مُستظلًا باللافتات هائلة الحجم التي انتصبت في شموخٍ على جانبيّ الطريق، وقد راح يتابع كلماتِها الإنجليزية المَنقوشة بأساليب بديعة، راسمًا في رأسه صورةً للمُنتجعات والمُدن الجديدة التي تعلن عنها، وتحثُّ الناسَ على انتهاز الفرصة السانحة لاقتناءِ وحدةٍ فيها. تهجَّى الشعارات المَكتوبة بقدر ما مكَّنته لغته البليدة، كانت جميعها تعده بحياةٍ أفضل؛ ما أقدَمَ على حجز الشاليه أو الفيلَّلا أو الشقة المزدوجة، مع عرضٍ مُغر بالتقسيط المريح، جعله يزداد عزمًا، وفي رأسه ترددت النصيحةُ الشهيرة: "ما تتنازلش عن الرفاهية في حياتك".
***
وصلته رسالةٌ نصيّة قصيرة على محموله، تطلب مِنه التبرع لصالح المستشفى، ثم أخرى تذكره بضرورة مكافحة الحشرات وعدم السكوت عنها، وثالثة تبشّره بأنه قد حصل على دقائق مَجانية؛ شريطة أن يستهلكها فجرًا. اتسعت ابتسامته إذ حفظ الرسائل كافة عن ظهر قلب؛ فراح يتسلى بمحوها تباعًا. رسالةٌ رابعة لم يشأ محوها؛ إذ جاءته للمرة الأولى، وقد عدها إشارةً إلهيةً مُؤيدةً لقراره. "رحلةُ مَصيَف مُبهرة، تقضيها على أروع شاطئ، بصحبة العائلة"، والمفاجأة الكبرى: مُقابل زهيد؛ بضعة آلاف فقط، تكفُل له يومًا لا يُعوَّض.
***
لمح بقايا رغيف فينو يطلُّ برأسه مِن ورقة مُشبعة بالزيوت، تواريه حافة الرصيف، فانحنى والتقطه، ثم استأنف السير مُتألقًا بابتسامته الرائعة، مشفوعًا بتواضعه المحمود.
مضى الوقت برأفت سريعًا؛ كعادة الأوقات الجميلة في حيوات الناس؛ لم يلهيه عن الاستمتاع بجولته ألم خفيف أصابه في فم المعدة، وناوره مُتنقلًا بين أحشائه، ولا أثنته الرسائلُ المُتتابعة عن هدفه الرئيس. أخرج مِن جيبه نصف سيجارة هزيلة، وطلب مِن عابرٍ وحيد له هيئة تشبهه إلا قليلًا؛ ولاعة أو عود كبريت. حرص على ألا يسحب شهيقًا طويلًا كي يحافظ على سيجارته مسافة أطول؛ إذ لم يكُن في استطاعته الحصول على سواها. تناول القضمةَ الأخيرة، شاعرًا بالامتنان والتقدير؛ إذ عثر ببساطة مُنقطعة النظير على وجبته الوحيدة، فتش بلسانه في أركان فمه مُستجمِعًا البقايا، ثم ازدردها وأتبعها بالنَفَس الأخير.
***
هبط السلم ماسحًا بكفه الدرابزين، مَحمولًا وسط الجموع الغفيرة، إلى أن وصل بأعجوبة إلى الرصيف، واستطاع ببراعة المُتمرسين أن يجد مساحة لقدميه الاثنتين؛ وإن كان عليه ضمُّهما. ألقى نظرة على جاره الكهل الذي انهمك في قراءة ما جاء بجريدة طواها أربعًا؛ حول المعاشات وأصحابها، وما صدر فيهما مِن أحكام ولوائح وقوانين. دَسَّ عينيه خلسة ليطالع حظك اليوم، مُتمنيًا إشارة أو علامة جديدة. تمَلمَل الكهلُ لتأخر المترو، وأعرب دون كياسة عن قلة صبره، فتمكَّن رأفت مع تغير وضع الجريدة مِن أن يلمح بُرجه: "تمر بيوم عَجَبٍ عجاب، لا تتردد في اتخاذ قرارك".
***
بعد نصف ساعة تقريبًا، قيل إنّ المترو تعطَّل، وإن الإصلاح قد يستغرق زمنًا، لكن ذلك لم يدفع مواطنًا واحدًا للانسحاب. أبدى رأفت بدوره إصرارًا وولاءً عظيمًا، لم يفُت مِن عَضَده مرور الوقت، بل زاده ابتسامًا، وحين غام بصره، تذكر فقر الدم الذي ظهر في تحاليله منذ أشهر قليلة، فضحك ضحكة راضية أصيلة، وتحرك مِن مكانه مُتخذًا وضعًا أكثر مُلائمة، مُتجاوزًا بكتفه الجار الكهل ومُستبقًا مجموعة مِن التلاميذ.
لاحت نقطةُ الضوءِ في نهاية النفق الأسود، مُبشرة بوصول المترو، فأفلت رأفت الورقة المُنبعِجة ومَسَح يده في بنطاله مِن بقايا الزيوت، وتقدم خطوتين إلى الأمام. اقتربت العربات فجذب شهيقًا واعتدل فاردًا ظهره، ثم قفز بغتة إلى القضبان، غير عابئ بالصيحات العجيبة التي سرعان ما خفتت واختفت. في بقايا أوراقه التي حاولوا جمعها؛ لم يكن اسمه "رأفت"، ولا كانت في صورة بطاقته الابتسامة ذاتها. صباح فريد.