حدود الأمان - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدود الأمان

نشر فى : الجمعة 3 سبتمبر 2021 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 3 سبتمبر 2021 - 8:15 م

لكُل شخصٍ حدود خاصةٌ تشعِره بالأمان؛ إذا اطمأن لوجودها لم يُعر بالًا لمنغّصات الحياة وإن ازدادت، ولم يتهاو وإن تكالبت عليه الهُموم؛ فحدُّ الأمانِ خاصته قائمٌ، وما دونه عابر يُمكن التجاوز عنه بسِعةِ صَدر.

•••
حدُّ الأمانِ عند بعضِ الناسِ يتعلَّق بالمُحيطين بهم؛ ما دام القُرباءُ أحياءً يُرزَقون، يزورون ويتزاورون، يربتون الأكتافَ في رفقٍ، ويهدئون الخواطرَ ما عَصَفَت بها الرياح؛ فالحالُ طيبةٌ آمنةٌ، والحياةُ مُستقيمةٌ في مسارها. إذا اختفى واحدٌ مِن هؤلاء؛ فغادر البلادَ إلى غير رَجْعةٍ أو غيبه مَوتٌ لا تجدي معه حيلةٌ، سقطَ الحدُّ وانهار سدُّ الأمان؛ مهما بلغ الشَّخصُ من شأنٍ ومهمًا حاز مِن عواملِ قوةٍ ومنعة.
•••
آخرون يشعرون بالأمانِ في وجود فائضٍ ماديّ؛ لا ينقصُ عن مستوى مُعين، فإن تداعت الأوضاع الاقتصاديةِ وتقلَّص هذا الفائضُ أو زال، فقدوا أمانَهم الشَّخصيّ وباتوا في هَمّ وغَمّ، لا يعلمون ما قد يحدث في التوّ ولا يأمنون القادم. المالُ في عقيدتِهم حصنٌ ضدَّ كُروبِ الدنيا، يُعالج ما تبدى مِن جروحِها، ويُطبّب نوازلَها، أو على أقل تقدير يخفّف منها ويجعلها مُحتمَلة.
•••
عرفت امرأةً عجوزًا؛ تجد الأمانَ في أغربِ شيء. كُلما ضاقت بها العيشةُ وتوالت عليها الخطوبُ، وكُلما أحسَّت بروحها تضطَرِب وبصدرِها لا يتَّسع لأنفاسِها، وكُلّما خافت وتفاقم خوفُها، طَلبت الأمان. أمانها كان شجرة. جذع هائلٌ ضخمٌ يُلامِس السماءَ، وأوراقٌ خضارها داكنٌ تُصدِر صوتًا شجيًا ما تخلَّلها الهواءُ، تقصدها العجوزُ وتجلس في ظِلها وتشكو. رأيتها مرة تحادث نفسَها فسألت بعدما انتهت وقامت. قالت إن الشجرةَ صديقتُها، وإن أمها في الصبا حرَّمت عليها أن تشكوَ لجارةٍ أو صديقة. علمتها أن السّر لا يكون سِرًا ما خرج مِن القلب، وأن الشجرةَ قلبٌ واسع كبير، لا يخون ولا يفشي ما أتُمِن عليه أبدًا.
•••
السَّتر عند كثيرِ الناسِ حدُّ أمان. الحالُ مَقبولةٌ والردُّ ما سُئِلوا عن أخبارهم: مَستورة، ما داموا يكفون يومَهم، يجدون القوتَ والمَلبسَ. الحدُّ الأدنى مِن الحاجاتِ الأساسيةِ يكفيهم؛ لا يطلبون المزيدَ ولا يعرفون المُغالاةَ في رغباتِهم، يطمحون ولا شكَّ في ما هو أفضل، لكنهم إن عجزوا عن توفيره لم يفقدوا إحساسَهم بالأمان.
•••
مَن جرَّبوا حزنًا أو كابدوا بؤسًا في مرضِ عزيزٍ؛ يَرون الصّحةَ وحدها حدَّ أمان. الثروةُ والوفرةُ وكنوزُ العالم لا تجلب جسدًا سليمًا مُعافى، ومتاع الدنيا يصنعه الإنسانُ بقدرتِه وإرادتِه، أما إذا اعتلَّت أعضاؤه فذبلَ وذوى، توارت إمكاناتُه وتعطَّلت، وغدا أمانُه في خطرٍ عظيم لا يصده حائطٌ مهما بلغت قوته.
•••
في إرثِنا العتيد؛ رغيفُ الخُبز حدُّ أمان. هو الأقل سعرًا، والأكثر قدرةً على سدّ الجُوع، والأيسر توفيقًا مع أيّ طعام آخر؛ إذ يقبل داخله أنواعًا شتى من المأكولات، مِن البَصل إلى المَكرونة ومن الطعمية إلى الكشري، كما يُغمَس في السوائلِ كلّها، ويسع رقائقَ البطاطس رخيصةَ الثمن والفجلَ والكُّرات. يقول المأثور الشعبيّ: ما حدش بيبات جعان، والحقيقة أن ثمَّة مَن صاروا يبيتون في جوعٍ، ويصحون في جوعٍ، ويبحثون في صناديقِ القمامةِ عن الفتات.
•••
مَررت قبل شهورٍ بالطريقِ القديمةِ، فلم أجد شجرةَ العجوز. اختفت مِن على وجهِ الأرضِ وفي جوفِها ما لا يعلم إنسٌ من أسرار، لم أبصِر في مكانها سوى بقايا جذرٍ غليظ قابض على الأديم، لم يتسنَ اقتلاعه. العجوز نفسُها اختفت بعد وقت قليل، ولم أعد أراها تحومُ في المكان.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات