ــ 1 ــ
انقضى زمن ليس قصيرا منذ قرأت كتابا حلوا سلسا ينضح بالمحبة للفن والناس، ويخلو من عكارات تضخم الذات ونتوءات النميمة الجارحة! جاءنى كتاب مذكرات الموسيقار العظيم المعجون بالفن والموهبة والرغبة الحارقة فى إسعاد الناس وتخفيف همومهم وآلامهم «هانى شنودة» كى يبدِد الكثير مما ران على القلب والروح فى الأشهر الأخيرة بل فى السنوات الثلاث الأخيرة (2020ــ2022) هذه السنوات التى سيؤرخ بها كعلامةٍ فاصلة بين ما قبل وما بعد.
كتاب جميل فيه كمية من السماحة والحنو والإصرار على العمل الدؤوب، والإخلاص للفن والموسيقى ليس لها مثيل.
كتاب وأنت تقرأ كل سطر فيه لا تملك إلا أن تحب هذا «المصرى الأصيل» ابن المصريين، ومؤسس فرقة (المصريين)! وأن تغضب معه لمن يناديه بالخواجة فيشعر بالإهانة، ويقول لنفسه «لا لست بخواجة؛ فأنا مصرى وأُبدع موسيقى مصرية، وإن كانت روافدها متعددة مصرية وغير مصرية!» وما زال حتى الآن يرى هذا التوصيف انتقاصا من مصريته وطمسا لهويته!
ترى مشاهد تتحرك بإيقاع مضبوط وكأنها مقطوعة عبقرية من مقطوعاته الجميلة؛ مشهد يظهر فيه فى مواجهة نجيب محفوظ يستفزه تعليق للأديب الكبير فيرد بحدة واندفاع الفدائى عن اتجاهه الموسيقى الجديد، وبعد سنوات يكتشف أن تعليق الأستاذ كان عبقريا رغم الاختلاف والتوجس فى الظن!
مشهد آخر نرى فيه جانبا من تفاصيل وحياة العبقرى صلاح جاهين؛ من سادات الإبداع بلا منازع، لكنه كان إنسانا رقيقا وحساسا تؤلمه الكلمة ويقتله المساس بالكرامة، فنتألم نحن أيضا حينما يروى شنودة واقعة إحالته للتحقيق فى (الأهرام) بسبب كاريكاتير نشره عن ابنه بهاء فى مساحته المخصوصة!
ــ 2 ــ
هذا الكتاب الذى اتخذ شكل حوار مطول أجراه الصحفى النابه مصطفى حمدى مع واحدٍ من أصحاب التجارب الرفيعة؛ رفيعة المقام فعلا، وعالية القيمة فى تاريخنا الموسيقى المعاصر؛ هو لم يُكتب كمذكراتٍ فى الأساس، إنما استطاع مؤلفه بذكاء وحنكة أن يحيل المادة المهمة التى تجمعت تحت يديه من جراء المقابلات والأحاديث والحوارات التى جمعته بالموسيقار العبقرى هانى شنودة إلى ما أسماه مذكرات هانى شنودة؛ رتبها وأعاد صياغتها فى إطارٍ محكم منظم يقوم فيه بدور الراوى المعلق، ثم يتيح الفرصة كاملة لصاحب المذكرات أن يتحدث ويفصح ويحلل ويروى ويفضفض بصوته الخالص ونبراته الخاصة وتعبيراته المدهشة.
استطاع بأمانة ودقة أن يستخلص منها مراحل ومحطات رئيسية فى مسيرة حياته الحافلة والعامرة؛ توقف عند الشخصيات الملهمة والمكتشفة على يديه، حلَل بذكاء ووعى النقلات الفنية والمراحل التطورية فى مسيرة الموسيقار الموهوب؛ تلحينا وتوزيعا، عزفا وغناء، موسيقى تصويرية، وتتراتٍ درامية وسينمائية وبرامجية.. كما حدد بدقة مجالات إسهاماته التلحينية، وعطاءاته التجديدية؛ واكتشافاته للأصوات التى بقيت وستبقى شاهدة على نقاء الحس وصدق البصيرة وإشعاع الموهبة.
من أهم ما يستشفه قارئ الكتاب الذكى الحصيف ذلك الحس الاجتماعى القوى فى فكر ورؤية هانى شنودة وهو يبدع ألحانه ويؤلف موسيقاه؛ بداخله فنان مبدع يطمح للعبقرية وإن اتهم بالجنون! (يردد أكثر من مرة عبر صفحات الكتاب مقولة الفيلسوف ثيروندايك إن «الفرق بين العبقرى والمجنون هو النجاح»، ويعتبرها أحد أهم مفاتيح الحياة والتطور والنجاح فى مسيرته)
خيط رفيع للغاية يفصل بين البساطة الخادعة والسلاسة الممتعة وبين العمق الاجتماعى الواعى تماما بضرورة تمثيل هموم وآلام وآمال وطموحات هؤلاء الناس الذين يبدع لهم، ويستلهمهم ويتوجه إليهم؛ ولا يغيبون عنه لحظة.
ــ 3 ــ
ولعل فى قصة تلحينه لأغنية «زحمة يا دنيا زحمة» لأحمد عدوية ما يوضح هذا الحس الرفيع؛ يتذكر هانى شنودة يوم التسجيل، قائلا: «ذهبنا لنجرى بروفة فى (استوديو 35) بالإذاعة. كنا نعزف مقاطع من الأغنية وعدوية يغنِى، بينما موظفو الإذاعة يتجمهرون فى غرفة الكنترول؛ ليتابعوا ما يولد بالداخل، وكأنه شىء غريب وعجيب، وهو كذلك فعلا؛ فقد كانت المرة الأولى التى يشارك فيها البيز جيتار والدرامز فى عزف أغنية شعبية، ومن بعدها وكل الأغانى الشعبية تستخدم هاتين الآلتَين».
يتابع شنودة: «أنا شُفت نجاح (زحمة يا دنيا) وهى بتتسجل من قبل أن تُطرح بالأسواق، وبعد أن حققت مبيعات خرافية جاءنى عاطف منتصر، كعادته، وقال لى: كان عندك حق يا هانى... أنت عملت حاجة ما حصلتش فى تاريخ الأغنية الشعبية المصرية».
المؤكد أن تأثير زحمة يا دنيا كان أكبر من كونه شريط كاسيت حقق أعلى مبيعات فى مسيرة عدوية، لقد تحولت الأغنية إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية، واستخدمها الناس كوسيلة للاعتراض على أحوال المرور التى ساءت فى عهد الرئيس السادات، مع الزيادة السكانية، والهجرة المتزايدة إلى القاهرة، وغياب الأمن العام فى الشارع.
كان سائقو التاكسى يرفعون صوت الأغنية فى (كاسيتات) سياراتهم وهم يمرون أمام عساكر المرور والضباط فى الإشارات، ويستفزونهم وهم يغنون (مولد وصاحبه غايب)، الجملة فى حد ذاتها كانت أشبه بصفعة على وجه صاحب المولد الغايب أو المتغيب عن أداء دوره، ولهذا وبعد أسبوعين فقط من طرح الشريط بالأسواق وصلت تقارير للرئيس السادات بما يحدث فى الشارع، فأعلن إعادة الانضباط للشارع المصرى، وأمر بنزول حملات مرورية فى كل شوارع العاصمة لضبط حركة المرور، وإيقاف السائقين المخالفين.. كان السادات بهذه القرارات يعلن على الملأ أن المولد صاحبه حاضر ولم يغب، كأنه يرد على صرخة عدوية التى هزت الرأى العام». (ص 73، 74)
ــ 4 ــ
يذكرنى هانى شنودة بكبار المبدعين الذين يحملون بداخلهم حسا نقديا رفيعا وأصيلا أصدق من مائة ناقد محترف! كل مبدع أصيل بداخله ناقد كبير حقيقى متوارٍ لا يظهر إلا عند الضرورة ليكشف جمالية لحن رائع أو يفسر طبيعة صوت غنائى وخصوصيته (انظر مقارنته الدقيقة بين لونى أداء عمرو دياب ومحمد منير فى بدايات كل منهما، هذه المقارنة التحليلية لا تصدر إلا عن مبدع وناقد كبير جدا وممتلك تماما ناصية المعرفة التى يتقنها موهبة ودراسة وممارسة).
كنت أحب هانى شنودة وأحب موسيقاه.. الآن أحببته أكثر وأكثر، وأزعم أننى أعدت اكتشاف موسيقاه الرائعة بعين جديدة وإحساس بالجمال لا يزول.