ظهرت أخيرا فى عدة شوارع وقنوات تليفزيونية إعلانات عن كتب خارجية انتشرت بين طلبة المدارس المصرية منذ ستينيات القرن الماضى، ويتصادف هذا الأمر مع مرور عام على استحواذ منصة مصر للتعليم المملوكة لصندوق مصر السيادى ومجموعة هيرمس على حصة أغلبية فى إحدى أهم شركات الكتب الخارجية.
بدأ منع إنتاج وتداول الكتب الخارجية منذ الستينيات، إلا أن تداولها والإعلان عنها صارا مألوفين، إلى أن توارت هذه الإعلانات مع استمرار الرفض الرسمى للدروس الخصوصية وما ارتبط بها من كتب خارجية، رغم أنها صارت عمليا لا غنى عنها فى التعليم، الذى تحول إلى الاعتماد على التعليم البديل من خلال الدروس الخصوصية بمختلف أشكالها، بعد أن توارت المدارس والتعليم الرسمى إلى ركن مظلم، فلا يكاد يمر الطلاب على مدارسهم فى مراحل التعليم المختلفة، خاصة المراحل المتقدمة وعلى رأسها الثانوية العامة، إلا بشكل عابر.
تاريخيا، كانت يد الحكومة تشتد بين حين وآخر على الكتب الخارجية والدروس الخصوصية، ثم ترتخى فى أحيان أخرى، ويرتبط هذا الأمر فى كثير من الأحيان بموقف وطريقة تعامل وزير التعليم مع الدروس الخصوصية.
بعض الوزراء تعامل مع الدروس الخصوصية بتطبيق القانون على نحو صارم، من خلال التدخل المباشر لإغلاق مراكز الدروس الخصوصية ومعاقبة المشاركين فيها، بما فى ذلك المشاركين فى كتابة الكتب الخارجية من موظفى وزارة التعليم. على سبيل المثال، أقال وزير التعليم الأسبق أحمد زكى بدر عام 2010 مدير مركز تطوير المناهج وألغى ندب وتعاقد عدد من المسئولين بالمركز بسبب مشاركتهم فى تأليف كتب خارجية إضافة إلى عملهم فى الوزارة.
على جانب آخر، اصطدم الدكتور طارق شوقى، وزير التعليم السابق، مع دور نشر الكتب الخارجية، إلا أنه تبنى بالأساس فكرة تجفيف الطلب على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية من خلال تطوير المناهج وأساليب التدريس، وتطوير الامتحانات لقياس الفهم بدلا من الحفظ، وهو ما سيؤدى إلى انتفاء الحاجة إلى الدروس
الخصوصية لأن المدرس الخصوصى لن يتمكن بأساليبه التقليدية من إعداد الطلاب لاختبارات تقوم على قياس القدرات والمهارات. وفيما يتعلق بوسائل التعليم، تبنت استراتيجية إصلاح التعليم التى أطلقها الوزير عام 2017 مبدأ حرية الطلاب فى اختيار المادة التعليمية التى يعتمدون عليها فى الدراسة من خلال الاختيار من بين المواد التعليمية المتاحة على بنك المعرفة المصرى Egypt Knowledge Bank.
ورغم الطموح الذى تجسد فى هذه الاستراتيجية، والآمال التى صاحبتها، إلا أن التجربة أثبتت أن البنية التحتية المعلوماتية وبنية المدارس، وقدرات المعلمين وتوجهات الإداريين، إضافة إلى ثقافة أولياء الأمور والطلاب، لا يمكن أن تؤدى إلى نجاح هذه الأفكار، وعلى الجانب الآخر، أثبتت سناتر الدروس والمدرسون الخصوصيون قدرتهم على التعامل مع منظومة التعليم الجديدة بشكل أفضل من المدارس الرسمية، التى بقيت على حالها من غياب المدرسين وضعف الإدارة.
وفى المقابل، يبدو أن وزير التعليم الحالى الدكتور رضا حجازى يرى فى تقنين وتنظيم مراكز الدروس الخصوصية اقترابا أكثر واقعية للتعامل مع هذه الظاهرة، فلم يعد من المجدى انكارها رسميا مع اعتماد نسبة غالبة من الطلاب عليها وفق الإحصاءات الرسمية.
ورغم أن الوزير قد طرح هذه الفكرة فى إحدى جلسات مجلس النواب فى أكتوبر الماضى مع بداية توليه لمنصبه، إلا أنها لم تظهر إلى الساحة مجددا منذ ذلك الوقت.
• • •
أبرز الارتفاع المبالغ فى أسعار الكتب الخارجية قبل بداية العام الدراسى الحالى 23/2024 محورية هذه الكتب. فقد ارتفعت أسعارها ما بين 35% و40%، وفرض بعض التجار أسعارا إضافية، أو «أوفر برايس» كما صارت هذه الظاهرة تعرف فى أسواق السيارات.
تناولت وسائل الإعلام والبرلمان هذه القضية بين استنكار الاعتماد على الكتب الخارجية ورفض الارتفاع المبالغ فى الأسعار وطرح بدائل بعضها منطقى مثل التعريف بالوسائل التعليمية التى تطرحها وزارة التعليم على بنك المعرفة وقنوات التليفزيون، وبعضها غير واقعى مثل العودة للاعتماد على كتب الوزارة.
وطفت على الساحة مع هذه الحالة ألغاز أثارت حيرة وتساؤلات لم تحظَ بإجابة منذ سنوات، وشكوك لم يتم تأكيدها أو رفضها.
مثلا، لماذا تستمر وزارة التعليم فى طباعة ملايين الكتب سنويا بينما يستخدمها نسبة محدودة من الطلاب؟ وكيف يشارك فى كتابتها فى بعض الأحيان خبراء من وزارة التعليم؟ وما طبيعة مشاركة عدد من دور النشر فى تصميم كتب الوزارة والكتب الخارجية؟
كيف يمكن أن نتحرك لوقف هذا الهدر وتحويل الفائض إلى العملية التعليمية؟ وكيف يمكن تفعيل دور بنك المعرفة المصرى لتحسين العملية التعليمية بشكل يحظى بقبول الطلاب؟
أسئلة كهذه تحتاج إلى دراسات متعمقة، وسيكون على الباحثين فى مجال السياسات العامة والسياسة المقارنة الاستعانة بنظريات عن جماعات المصالح الخاصة special interest groups والنقاط المفصلية التى يمكن أن تتغير عندها السياسات العامة.
• • •
يمكن اعتبار استحواذ صندوق مصر السيادى على حصة فى شركة من أهم شركات الكتب الخارجية لمرحلة التعليم قبل الجامعى نقطة محورية فى السياسات التعليمية، خاصة تلك المتعلقة بالكتاب المدرسى، وإن كان يصعب تحديد اتجاهها الآن.
من الناحية الاقتصادية يعد الاستثمار فى التعليم نشاطا اقتصاديا هاما فى دول كثيرة حول العالم، وتوجد شركات دولية عابرة للحدود تعمل فى هذا المجال.
كما أن مجال الكتب الخارجية لا شك مجال مربح، ومن ثم اختياره كمجال استثمارى يعد قرارا رشيدا من قبل صندوق مصر السيادى ومجموعة هيرمس، خاصة بعد الارتفاع الأخير فى أسعار الكتب الخارجية.
الواقع أن الاستثمار فى قطاع التعليم قبل الجامعى أحد الأهداف الاستراتيجية لصندوق مصر السيادى، ومن الممكن أن يؤدى إلى نتائج إيجابية فى قطاع التعليم، خاصة بالنسبة للطبقات الوسطى والعليا. وقد بدأ الصندوق عدة شراكات فى هذا المجال، منها الشراكة مع مجموعة هيرمس، من خلال الاستثمار فى «صندوق التعليم» الذى أنشأته المجموعة عام 2018 بالشراكة مع GEMS Education الإماراتية بهدف ضخ استثمارات فى قطاع التعليم المصرى تقدر بـ300 مليون دولار.
من ناحية أخرى، يمكن أن تسهم الكتب الخارجية، بل والدروس الخصوصية كذلك، فى تحسين العملية التعليمية، وقد أشارت عديد من الدراسات المقارنة التى تناولت هذه القضية إلى وجود الدروس الخصوصية فى كثير من دول العالم، بما فيها نظم تعليمية ناجحة مثل السويد وفنلندا. إلا أن الحالات التى تقوم فيها الدروس الخصوصية بدور إيجابى يكون دورها مكملا لدور المدرسة من خلال مثلا مساعدة الطلاب الذين يواجهون مشكلات تعليمية معينة، بما فى ذلك المساعدة فى القيام بالتكليفات المدرسية، ولكن المشكلة تظهر عندما يتضخم دور الدروس الخصوصية ليصبح بديلا عن المدرسة وليس مكملا وداعما لها، كما هو الحال فى التعليم المصرى.
وبنفس المنطق يمكن أن تسهم إصلاحات فى السياسات المتعلقة بالكتب المدرسية والكتب الخارجية وتنظيم عمل مقدمى الدروس الخصوصية فى تحسين العملية التعليمية، وتحقيق توزيع أفضل لموارد وزارة التعليم.
هل تستطيع الشركة المنتجة لأحد الكتب الخارجية بعد الاستحواذ تطوير المحتوى التعليمى والاستفادة من البنية الرقمية المتاحة، بما فى ذلك بنك المعرفة المصرى، لتيسير الوصول إلى المادة التعليمية وتحسين طرق التدريس للجميع؟
هل يمكن أن يتكامل تنوع المحتوى التعليمى على المنصات الرقمية الذى وعد به الصندوق السيادى بعد عملية الاستحواذ مع ما حققته استراتيجية إصلاح التعليم فى الأعوام السابقة، من خلال مثلا تفعيل أدوار بنك المعرفة المصرى والقنوات الرسمية لوزارة التعليم المصرية؟
كيف يمكن توسيع نطاق المستفيدين من الاستثمارات التعليمية التى قام بها صندوق مصر السيادى؟
من المهم أيضا أن نسأل عن كيفية إدارة التعاون بين الإدارات الجديدة للكتب الخارجية ووزارة التعليم، بما يسمح بإدارة هذه الكتب والخدمات المرتبطة بها فى خدمة العملية التعليمية وإنهاء الهدر الناتج عن تعدد الكتب التى يتم الانفاق عليها فى ذات المقرر للطالب الواحد.
نحتاج إلى إجابات عن هذه الأسئلة حتى يمكن مناقشة العوائد التعليمية والتنموية لهذه الاستثمارات إلى جانب العوائد الاقتصادية.