الإنفاق على التعليم فى مصر غير كافٍ، وغير كفء.
الإنفاق غير كاف لأنه لا يستوفى النسبة التى حددها الدستور للإنفاق على التعليم، وهى 4% من الناتج المحلى الإجمالى، وتضطر الحكومة للتصرف حيال هذا العجز بحيل محاسبية، مثل توزيع عبء خدمة الدين على القطاعات المختلفة، ومنها التعليم.
ولا يواكب الإنفاق على التعليم احتياجات المنظومة التعليمية من فصول دراسية ومدرسين مدربين وأدوات تعليمية لتلبية احتياجات أكثر من 25 مليون طالب وطالبة فى مرحلة التعليم قبل الجامعى أغلبهم فى التعليم الحكومى.
وهو غير كفء لما يشتمل عليه الإنفاق التعليمى من هدر. وفيما يتعلق بالإنفاق على مصادر التعلم، تنفق الحكومة مليارات الجنيهات على طباعة الكتب الدراسية، وتنفق مليارات أخرى على التابلت، وينفق أولياء الأمور مليارات ثالثة على الكتب الخارجية وملازم المدرسين الخصوصيين.
هذا الهدر لا يستقيم مع منظومة تعليمية تعانى بالفعل من نقص شديد فى الموارد.
• • •
أصدر وزير التعليم، محمد عبد اللطيف، فى نوفمبر الماضى، قرارًا بقصر توزيع أجهزة التابلت على طلاب المدارس الحكومية وطلاب مدارس المعاهد القومية المتصلة بالإنترنت، وعدم تسليم التابلت لطلاب المدارس الخاصة.
يعتبر التابلت، وفق هذا القرار، عهدة شخصية يعيد الطالب تسليمها عقب انتهاء المرحلة الثانوية، مع شهادة من الوكيل المعتمد للتابلت تفيد بصلاحية الجهاز بمشتملاته للتشغيل، وإلا التزم الطالب بسداد قيمته كاملة بالإضافة إلى المصاريف الإدارية.
ومن المتوقع أن يفشل هذا القرار فى تحقيق الاستفادة من بدائل التعليم الإلكترونى، وإن كان سيقلل الهدر فى الإنفاق، ولا يلغيه، بقصر توزيع التابلت على طلاب المدارس الحكومية بالأساس.
تعود أسباب توقع فشل هذا القرار فى تحقيق الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات فى التعليم إلى نتائج دراسات منشورة بالفعل.
أولاً، من المتوقع أن يؤدى الترهيب الناتج عن الالتزام بدفع قيمة التابلت إذا حدث له مكروه إلى تفادى استخدامه من الأساس، فسيتركه الكثيرون فى علبته فى مكان أمين إلى أن يتم تسليمه للوزارة بعد نهاية المرحلة الثانوية.
ثانيًا، تشير الدراسات إلى أن تحقيق جدوى تكنولوجيا المعلومات فى التعلم يعود إلى المدارس والمدرسين، وإلى قدرة أولياء الأمور على دعم أبنائهم للاستفادة من البدائل التكنولوجية المتاحة. وبالنظر لضعف الرقابة على المدارس الحكومية المصرية، التى أثبتت دراسات وتحقيقات أنها لا توفر فصولاً من الأصل لطلاب الثانوية العامة، فمن غير المتوقع أن يؤدى توزيع التابلت على طلاب هذه المدارس إلى تعزيز الاستفادة من مصادر التعليم الرقمية، بل سيستمر هدر المليارات، ولكن ربما بدرجة أقل من الأعوام السابقة.
ثالثا، أدخلت استراتيجية إصلاح التعليم عام 2018 عدة إصلاحات منها، إصلاح نظام الامتحانات بحيث لا يكون التقييم معتمدًا على قياس قدرة الطالب على الحفظ، بل على الفهم. وهو تطور محمود فى الظاهر، ولكنه أدى إلى نتائج عكسية، حيث زاد من عدم يقين الطلاب بخصوص كيفية التعامل مع الامتحان، الذى يظل هو قلب النظام التعليمى ومحط اهتمام الطلاب وأولياء الأمور.
وتعمق الإحساس بعدم اليقين تجاه الامتحان النهائى بسبب تعثر أداء الامتحانات والتخبط فيما يتعلق بمحتواها، وجاء المثل الشهير على هذا التخبط فى العام الماضى حين اضطرت وزارة التعليم إلى تغيير ترتيب أوائل الثانوية العامة بسبب سؤال فى مادة الفيزياء مُختلف على إجابته الصحيحة، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها اختلاف حول إجابة سؤال فى امتحان الثانوية العامة ووجود أكثر من إجابة صحيحة، ولكنها كانت المرة الأشهر لارتباطها بترتيب أوائل الثانوية العامة وتزامنها مع تولى الوزير الجديد مقاليد العمل بالوزارة.
رابعًا، كان الهدف من توزيع أجهزة التابلت هو إتاحة الفرصة للطلاب لكى يستفيدوا من تنويع مصادر التعليم الذى أتاحته وزارة التعليم، ومن هذه المصادر بنك المعرفة المصرى الذى تم إنشاؤه عام 2014، إضافة إلى القنوات التعليمية التابعة للوزارة، وعدد من المنصات التعليمية المتاحة أونلاين، إلى غير ذلك.
ولكن مع التخبط فى إدارة الامتحانات وغياب الدعم الفنى للطلاب فى المدارس لاستخدام الموارد التكنولوجية المتاحة، صار الطلاب وأولياء الأمور فريسة لمنظومة الدروس الخصوصية، التى أدت استراتيجية إصلاح التعليم إلى تعميق الاعتماد عليها فى ظل ضبابية معايير التقييم وضعف قدرة المدرسين والمدارس على التعامل مع المنظومة الجديدة.
بمعنى آخر، كان المدرسون الخصوصيون هم الرابحون من استراتيجية إصلاح التعليم، لأنهم كانوا الأقدر على التعامل معها، والاستفادة منها.
على سبيل المثال، يستخدم كثير من المدرسين الخصوصيين بنك المعرفة المصرى، إضافة إلى الكتب الخارجية وغيرها من المصادر، لإعداد ملازم وأسئلة يتمرس من خلالها الطلاب على أداء الامتحان؛ حيث إن الطلاب والطالبات يجدون صعوبة فى الوصول إلى المحتوى الذى يحتاجونه من بنك المعرفة، خاصة مع عدم وجود دعم فى المدارس وتفضيل توفير الوقت للتدريب على الامتحانات من خلال أسئلة يجدونها فى ملازم المدرسين والكتب الخارجية.
أخبرنى عدد من طلاب المرحلة الثانوية فى إطار دراسة أقوم بها حاليا عن مصادر التعلم أن المدرسين الخصوصيين استفادوا من قنوات التعليم التابعة لوزارة التعليم، فهى بالنسبة لهم قنوات تسويقية يعلنون من خلالها عن قدراتهم التدريسية، ولا يقدمون المحتوى الكامل الذى يستطيعون تقديمه إلا فى مراكز الدروس الخصوصية.
بل إن بعض الطلاب أخبرنى أن المدرسين استفادوا من التوجه الرقمى الذى دعمته وزارة التعليم من خلال استراتيجيتها، ويقوم بعضهم بطرح فيديوهات مجانية على يوتيوب من أعوام سابقة لاستعراض قدرتهم على الشرح والتنبؤ بأسئلة الامتحان النهائى، أى أن هذه الفيديوهات أداة تسويقية أخرى.
وأخبرنى عدد من الطلاب أنهم صاروا يعتمدون على مصادر تعليمية متنوعة ومتاحة مجانا دون الحاجة إلى تابلت أو إلى بنك المعرفة، فهم يشاهدون الفيديوهات المتاحة على يوتيوب، ويعتمدون على أكثر من كتاب خارجى لحل أسئلة تجهزهم لامتحانات آخر العام، إضافة إلى الاعتماد على ملازم المدرسين الخصوصيين للمذاكرة، وأحيانا لحل أسئلة إضافية استعدادا للامتحان، ويزور البعض بنك المعرفة ومنصات خاصة للتحضير لامتحان نهاية العام، وليس فى سبيل تدعيم القدرات والمهارات كما توقعت استراتيجية إصلاح التعليم.
كل هذا والمدارس والمدرسين غائبين عن المشهد.
• • •
ما الحل إذن؟
أرى أن من الأهمية السعى لتعظيم الاستفادة من الإنفاق الذى قامت به وزارة التعليم -بالفعل- على مصادر التعلم الإلكترونى، وعلى رأسها بنك المعرفة المصرى.
السبيل الأول لتعظيم الاستفادة مما حققته استراتيجية إصلاح التعليم هو البدء بوضع منظومة لمساءلة المدارس.
فى خضم المناقشات حول التابلت والامتحانات، نسينا أن الهدف الأول لاستراتيجية إصلاح التعليم هو استعادة دور المدارس وعودة الطلاب إليها. ولكن ما قامت به وزارة التربية والتعليم لتحقيق هذا الهدف قليلا جدا.
السؤال هنا: هل يمكن تحقيق الرقابة على المدارس مركزيا؟
أعتقد أن الإجابة المنطقية ستكون بالنفى، فعلى مدار عقود من الرقابة المركزية لوزارة التعليم، فإن ما تحقق فى إطار مساءلة إدارات المدارس عن أدائها محدود جدا.
ليس بمقدور وزير التعليم أن يناقش لامركزية الإدارة على مستوى الدولة، وماتزال المناقشات جارية إلى أجل غير مسمى حول إعادة إحياء المجالس التشريعية المحلية.
ولكن بمقدور وزارة التعليم أن تبحث عن حلول لدعم دور أولياء الأمور والمجتمعات المحلية فى الرقابة على المدارس. وبهذا الدور يمكن دعم قدرة الطلاب على الاستفادة من الحلول التكنولوجية المتاحة للدراسة والاستعداد للامتحان.
أخيرا، أقترح إعادة النظر فى كيفية إتاحة الوصول إلى مصادر التعليم الرقمى. من المهم التفكير فى توفير هذه الإتاحة على مستوى المحافظة أو المدينة أو القرية من خلال المكتبات العامة ومراكز الشباب، أو حتى قصور الثقافة، مع ضمان وجود دعم فنى وتعليمى فى هذه الجهات، فالطلاب مستعدون لمشاهدة فيديوهات وبرامج تعليمية والبحث فى بنك المعرفة، وهم لا يحتاجون إلى تابلت لتحقيق هذا الغرض، فكثير مما يحتاجون إليه متاح بشكل مجانى فى بنك المعرفة وخارجه، ولكنهم فى حاجة لمنظومة تسمح لهم بالاستفادة من هذه المصادر.
وهنا قد تنتفى الحاجة من الأصل لجهاز التابلت وتُوفّر ملياراته لاستخدامات تعليمية أخرى.