في رِحلةٍ طَويلةٍ اتجهت فيها بالعَربة إلى وسط المدينة؛ كان التنقُّل بين مَحطات الإذاعةِ تسليتي الأثيرة. دقّت المُوسيقى المُميّزة لمُوجز الأنباء، ثم جاء صوتٌ جاد ليزفَّ إلى المُستمعين خبرَ حول حفلٍ رسميّ أُقيمَ بدارِ الأوبرا المِصرية؛ لتكريمِ من أطلق عليهم "صُنَّاع الهُوِيَّة". كانت تلك هي المرَّة الأولى التي أصادِف فيها الوَصفَ المَذكور؛ فالهُوية كما أعرفها تتشكلُّ عبر العصُور، والمَصانع التي تشارك في صَوغها هي مَجموع العوامِل والظُّروف والأحداثِ التي تقع خلال حقابِ الزمن المُمتدة؛ أما أن يتمَّ إيجاز الأمرِ وتلخيصه على هذه الصورة، وكأن صناعة الهوية وظيفة يمكن لأفراد أن يحترفوها؛ فأمر باعثٌ ولا شكَّ على الدَّهشة.
• • •
المَصنَع اسمُ مكانٍ مُشتقٌّ من الفِعل صَنَعَ، وهو مَكان تجميع وإنتاج لنوع من البضائع ربما كانت غذائية، هندسية، طبية أو حتى حربية، أو غيرها من أنواع الصِناعاتِ المُتباينة مُتَّسِعة النطاق. من هذه الصناعات ما هو استهلاكيٌ؛ يُقبِل علي اقتنائه الفرد العاديّ، وما يتوجه لمجموعات متخصُّصة ليُدمَج في خطوط إنتاج أكثر تطوُّرًا وتعقيدًا. الفاعلُ صانع والمَفعول به مَصنوع، والمَصدر صُنع وصِناعة.
• • •
اكتسبت مَصانع الغَزل والنَّسيج شهرةً واسِعةً في أوج ازدهارِها، وكذلك فعلَ مَصنَع بِسكو مصر الذي طالما أنتج أنواعًا مِن المَخبوزات مُمتازةِ الجَّودة، والذي استحوزت إحدى الشركاتِ الأمريكية على أسهُمه أخيرًا وغيَّرت من بَعضِ مَعالِمه المَألوفة، ورَفعت مِن الأسعار التي كانت في مُتناوَل الفِئات الأفقر، وقد توَاكب مع هذه المُتغيّرات تَذَبذُبٌ في المُستوى، وشُوهِدَت الأرفُفُ في بعضِ الفترات خاوية؛ تتركُ في القلبِ غصَّة.
• • •
لي أقرباءِ عاشوا عمرًا ناحية منطقتيّ المَعصَرة وحلوان؛ مِنهم من التهبت رئتاه ثم تحجَّرتا بفعلِ ما نشرت مَصانِع الأسمنت من جُسيماتٍ ثقيلة، تَعلَق بالهواء وتُزيد من نِسبة تلوثه وتَجعله شديدَ الضَّرر. تُوفي بعضُهم بأمراضٍ عُضالة استحال منها الشفاءُ، ولم يَزلْ آخرون يُعانون نوباتِ حَساسِيَّة وسُعال؛ على أثرِ ما استنشقوا خلالَ عقود.
• • •
إذ غرَّر واحدٌ بآخر وأوقعه في مَكروه؛ قال العارفون: أخذه ورا مَصنع الكراسي. التعبيرُ دارجٌ مستعملٌ بوَفرة، والحقُّ أن مصدرَه عَصيٌّ على التتبُّع والتأصيل، وربما تُرَدُّ جذوره وبدايات ظهوره إلى فترة تدهور المَصنَع الذي بني في عهد عبد الناصر بغرض منافسة الشركات العالمية المُنتِجة للمقاعد، ثم تحوُّله إلى منطقة مَهجورة مُترعة بالقمامة، تقع فيها أفعال مشبوهة تثير الرَّيبة. استخدمت التعبيرَ لاحقًا جماهيرُ مُشجعي كرة القدم، كما راجَ بين عامة الناس من خلال الدراما.
• • •
في مطلع السبعينيات وخلال حرب الاستنزاف، قَصَف العدو الإسرائيليّ مصنع أبي زعبل وقتل عشرات العمال. كان المَصنَع مَملوكًا للشركة الأهلية للصناعات المَعدنية، وقد احترقَ بسبب الغارةِ الجوِّية، ثم جرى ترميمه ووَاصَل لاحقًا عملَه واستمرَّ لأعوام؛ قبل أن تقضيَ عليه سياساتُ الخَصخَصة التي بدأت في تسعينيات القرن العشرين.
• • •
الحربُ مَصنَع الرّجال وتلك قولةٌ تحملُ في طياتها الكثير؛ إذ تدفع الحروبُ البشرَ لإخراج نقائض لا حصر لها؛ ثمَّة من يَتجلَّد ويتماسَك في مواجَهةِ ما يقع من فظائع، ومن يَنهار ويَهرب فور أن يقترب منه الخَطر. ثمَّة مَن يَختار الدفاع عن الشَّرف والعيش بكرامة، ومن يَتزلَّف للعدو ، والحقُّ أن الشدائد لها وجهان؛ فقد تُظهِر أسوأ ما يَحمل المرءُ من خِصال، أو أحسن ما تنطوي عليه نفسُه، والثابت في الأحوال كافة أن مَن خاضَ حربًا ليس كمَن سَمِع عنها، ومَن شَهِد أهوالَها ليس كمَن تفرَّج على صُورٍ من أرشيفها.
• • •
تبُثُّ بعضُ قنواتِ التلفزيون برامجَ؛ أبطالها صُنَّاع المُحتوى الذين يُقدمون عروضًا كلاميَّة من خلال مَواقِعهم وصَفحاتهم وحِساباتهم على مُختلَف التطبيقات الإلكترونية. تابعتها مرَّةً ومرَّات وبَذلت جهدًا للبقاءِ أمامها، ثم كفَفت في نهايةِ الأمر عن مُشاهدة هذه القنوات برُمتها؛ إذ الحالُ أفجعَ مما يُمكن احتماله؛ إن أثارت حلقةٌ مزيجًا من الحنُقِ والاستفزاز لضحالةِ مُحتواها؛ فقاعدة مُستقرَّة، وإن أصابتْ حلقةٌ وأمكَن استساغتها؛ فمحضُ استثناء.
• • •
تنتشر سلسلةُ مَحلات تحت عنوان "صانع السعادة"، ترصُّ ألواحَ الشوكولا بأنواعها المختلفة وأحجامها المتفاوتة وبأطعمتها المُستحدَثة التي تزايدت كثيرًا عما عرفنا صغارًا. مرأى الشوكولا مصدر سعادةٍ مُباشر بالفعل، والأمر ليس مُجرَّد عاملٍ نفسي؛ بل أنها تحوي موادًا كيميائيةً تحسِّن المزاجَ وتُخفِّف أعراضَ الحزن. عن نفسي أفضل المذاق الطبيعي الأصيل، لا ذاك المُطعَّم بحلويات أخرى، الشوكولا الداكنة قليلة السكر، هي الأقرب دومًا لذائقتي وما عداها لا يُشبِع ولا يُرضي.
• • •
بعضُ المرَّات تتأزَّم العلاقة ويصبح طرفاها خصيمَين، ويَصِفُ الناسُ تعقُّد المَوقفِ فيقولون: بينهما ما صَنَع الحدَّاد. الحدَّاد بريءٌ من المَسألة؛ لكن الجَهد البدنيُّ الهائل الذي يبذله لتليين المَعدن الصّلب العنيد؛ يجعل مِن الحِدادة أحد أشقّ الأعمال، ويحبِّذ الدفعَ بشَخص الحَدَّاد وصنيعه المُضني كمَضربٍ للأمثال.
• • •
ظلَّ إنتاج المَصانع الحَربِيَّة من أجهزة مَنزلية مُحتفظًا بسُمعة طيبة على مرّ السنين، أثبت المَوقِد الشَّهير وغيره من مُنتجات قوةَ تحمُّل وثبات واستمرارية، حَدَت بكثير الناس لتفضِيل شرائها على غيرها من الأسماء الشهيرة. لا أعرف الكثيرَ عن مَصيرها؛ لكن المرءَ يتمنى في ظلِّ الأوضاع العصيبة أن يبقى الجَيِّد على حالِه وأن ينجوَ من العَثرات.