‎المجلِس - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 11 يناير 2025 12:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

‎المجلِس

نشر فى : الجمعة 10 يناير 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 10 يناير 2025 - 7:20 م

أثار مشروع قانون المَسئولية الطبية الذى نُوقِش فى مَجلِس الشُّيوخ ثم انتقل إلى مَجلِس النواب لغطًا كبيرًا وسط جموع الأطباء؛ والحق أن إعطاءَ فرصةٍ للنقاشِ والتداوُل مع أصحابِ الشأن كان حريًّا ببذل الشىء اليسير من الجهد، وأن إيلاءِ الاعتراضاتِ التى جاءت من هنا وهناك جُلَّ الاهتمام وإقامة حوار مُستفيض مع الأطرافِ المَعنيَّة؛ كان الأولى والأجدر بالتفكير والتدبُّر، قبل أن يصبحَ الأمر مثارَ احتقانٍ حقيقى. ألغت النقابة دعوتها لجمعيةُ عمومِيَّة غير عادية كانت على وَشك الانعقاد؛ ولم يحظْ قرار الإلغاء بالتأييد التام.

•••

‎المَجلِسُ بكسر اللام اسمُ مكان، جَمعه مَجالس، وهو مُشتقٌّ من الفِعل جَلَس. الفاعلُ جالسٌ والمَفعول به مَجلوسٌ عليه، أما المصدر فجُلوس. تعكس فكرةُ المَجلس وجودَ جماعة من الناس تختصُّ بالنظر فى أمور بعينها؛ هناك مَجالس إدارة فى الشركات، ومَجالس أمناء فى الهيئات والجمعيات، كما أن هناك مَجلِس الوزراء الذى يضُم حقائبَ مختلفة، إضافة إلى مَجلس الدولة وهو هيئةٌ قضائيةٌ تختصُّ بالفَصلِ فى المُنازعات الإداريَّة والإفتاءِ فى بعضِ مَسائل القانون.

•••

‎تَنعقد المَجالسُ التأديبية بهدف توقيع عقوبةٍ إدارية على المُخطئ أو المُخالف. التأديبُ فى غالب الأحيان وظيفةُ الأكبر سنًا والأعلى مقامًا، واللفظةُ تُوحى بأن الشَّخص المقصودَ مُتهمٌ بالخروج عن مُقتضيات اللياقة والكياسة والتهذيب؛ لا بمجرد ارتكاب خطأ فنىٍّ أو مِهنىٍّ، ولقد شببنا على مَقولة: الأدب فضَّلوه على العلم، وهى مُقابلة ظالمة ما تأملها المرءُ قليلًا بعقل محايد؛ لكن ما الحال والباحثَ عن المَعرفة التوَّاق إلى التجربة؛ يبدو دومًا فى ثوب الفضوليّ المُتجاوز، الذى لا يُرحِّب به الناس؟

•••

‎عَرِفت مصر الحياةَ النيابيةَ منذ القرن التاسع عشر، وربما كانت هناك تكويناتٌ مُؤسَّسية يُمثلُ فيها المواطنون قبل هذا التاريخ. تشكَّل مجلسان للنوابِ والشُّيوخ وفقًا لدستور ثلاثة وعشرين، وسبقهما مَجلسُ نوابٍ تأسَّس عقب ثورةِ عرابي، وقد توالى تأسيسُ المَجالس على اختلاف المُسمَّيات، وتعرَّض بعضُها للحلِّ والتَّجميد، وخاض البعضُ الآخر معاركَ حقيقةً مُتعددةً إلى أن استتبَّت الأمور. تمتَّع مَجلسُ الشَّعب فى نهايات القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين؛ باستقرارٍ ورسوخٍ لا يُنكران، وبكثير الوقائع الصَّادمة وبعض المرَّات الضاحكة؛ رُفِعَت فيه أحذيةٌ، وتخلَّلت جلساتُه مواقفٌ حادة عنيفةٌ، وسِيقت إلى حَرمِه ألفاظٌ غير لائقة؛ لكن والحقُّ يُقال، كان البارعون من الخُطباء فى بَهوِه حاضرين، والمُفوَّهون من أعضائه مُتألقين، قادرين مُعظم الأحوال على دَبج الخُطَب المُنمَّقةِ التى تستميلُ الجمهورَ وتستهويه، وعلى رأس الفُصحاءِ كان رئيسُ المَجلس الذى تولى منصبه فى مطلع التسعينيات، والذى حظى بقوةِ البيانِ وسَلامةِ اللسان؛ على عكس كثيرين مِمَن لحقوه.

•••

‎إذا أشار واحدٌ لقَعدة طَرب وحظّ؛ فمجلسُ أنسٍ يتوقُ إليه السَّامعون وغالبًا ما يَملكون بشأنه صورةً ذهنيةً طريفة: خفَّةً وهَزرًا ومُسامَرةً وربما تمايُلًا ورَقص. المَجلسُ هنا ليس رسميًا بالمرَّة، إنما قد تخلى عن مُجمَل القواعد الصارمة المُتزمِتة، وتقارب أفرادُه و تحلَّلوا من القيود، وبحثوا عن المَباهج أينما كانت؛ ساعين للانبساط والسرور.

•••

‎فَقَدَت الجلساتُ الطارئةُ التى يدعوا إليها مَجلِس الأمن معناها ووقعَها منذ زمن بعيد؛ فعجالتها لا تُثمر قرارات مناسبة؛ إلا وفقًا لأهواء أعضائها الذين يملكون حقوقَ الرَّفض والقبول، واجتماعاته الاستثنائية لا تتواكبُ مع الأحداث؛ إلا فى سياق رغباتِ الدول العظمى المُسَيطِرة. ينعقد المَجلِس ما تَعطَّلت مَصالحها أو تهدَّدت، ويبقى فى خُمول وتراخى ما دامت مَحفوظةً مَحمِيَّة.

•••

‎تُعَد المَجالسُ العرفِيَّة صيغةً شِبه رَسميَّة للتعامُل مع النزاعات والاشتباكات بين أهالى منطقة بعينها. يتوافق الناسُ على الاحتكامِ إلى هذه المَجالِس ويرتضون ما يصدر عنها من قراراتٍ فاصلة، وغالبًا ما يُفضلون اللجوءَ إليها على التقاضى من خلال المَحاكم؛ إذ تمثل هذه المجالسُ الابنةَ الشرعيَّة لبيئتها، يُلمُّ أعضاؤها جيدًا بالأحداث والظروفِ المُحيطة، ويَعرفون ما خفى من تفصيلات؛ بل ويَرون الخُصومَ بأشخاصِهم ولا يغفلون عن السياق. قد تُخِلُّ المَعرفةُ الزائدةُ بعماءِ العدالة؛ لكنها توفر فى الوقت ذاته صورةً أشملَ وأدق. 

•••

 

‎انضَمَمت منذ أعوام خلت إلى لجنة علم النَّفس بإحدى المؤسَّسات الثقافية؛ تلبية لدعوى كَريمة من رئيسها. كانت فترة عضويتى مُثمِرة من الناحية التى تُرضى الفضولَ، وحافلةً فى الوقت ذاته بنقاشات لا تصل إلى نتيجة واضحة. من محاولات تحديد مَهام الأعضاء الغائمة، إلى صوغ قواعد عمل غير ملتبسة، إلى السعى لإرساء مبادئ أساسية يتعين الالتزامُ بها دون تنصُّل أو التفاف؛ مَضت المُدةُ تلو المُدة، إلى أن تأكد أنَّ تغييرَ الحالِ من المُحال.

•••

‎من المَجالِس ما يُنجِز ويُوجِز ويقطع أشواطًا للأمام، ومنها ما تنبثق عنه كياناتٌ أصغَر وأدقّ ثم أخرى أضيق وأرفع، ويتحول الأمر إلى لجانٍ ومَجموعات عمل يستهلك تكوينُها الوقتَ والجهدَ؛ إلى أن تصبح بذاتها هدفًا، ويُنسَى مع الانخراط فى استحداثِها الهَدفُ الأصلىُّ ويَذهب أدراجَ الرياح.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات