سطوة العلم على الأدب.. ومراوغة الأدب للعلم - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 18 يناير 2025 12:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

سطوة العلم على الأدب.. ومراوغة الأدب للعلم

نشر فى : الجمعة 17 يناير 2025 - 6:20 م | آخر تحديث : الجمعة 17 يناير 2025 - 7:12 م

شخصية معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام هو الدكتور أحمد مستجير وهو اختيار موفق للغاية. الدكتور مستجير من العلماء الذين يجمعون بين دقة العلم ورشاقة وجمال العبارة الأدبية، وهو ينضم لمجموعة قليلة جدا من العلماء فى العصر الحديث فى مصر تجمع بين العلم والأدب. هذه المجموعة الاستثنائية تضم الدكتور أحمد زكى عاكف ثالث شخص فى أفريقيا والوطن العربى يحصل على دكتوراه العلوم، وقد حصل عليها فى الكيمياء، ثم طور عمل مصلحة الكيمياء وأسس ما سيعرف لاحقا بأكاديمية البحث العلمى وأنشأ جريدة العربى الكويتية، وله العديد من المقالات وبعض الكتب التى تبسط العلوم للعامة. منهم أيضا الدكتور محمد كامل حسين المشهور بين الناس أنه مؤلف «قرية ظالمة» و«قوم لا يتطهرون» وهما تدلان على موهبة ومهارة أدبية لا يشق لها غبار، لكن القليل من الناس يعلمون أنه رائد جراحة العظام فى مصر. هذه فقط بعض الأمثلة من هذه المجموعة المنتقاة الشديدة التميز. وهذا مدخلنا لمقال اليوم: علاقة العلم والأدب فى عصرنا.

فى النصف الأول من القرن العشرين كانت هناك مناظرة بين العظيمين الدكتور على مصطفى مشرفة والدكتور طه حسين عن أيهما أنفع: العلم أم الأدب، والمدهش أن الدكتور طه كان يدافع عن العلم بينما دافع الدكتور مشرفة عن الأدب.
وتحضرنى هنا شخصية مهمة فى مضمار العلم والأدب وهو تشارلز بيرسى سنو (C. P. Snow) عالم الكيمياء الإنجليزى والروائى أيضا، وقد أعطى محاضرة تحولت إلى كتاب فيما بعد بعنوان «الثقافتان». الثقافتان هما ثقافة العلماء وثقافة الأدباء. كان سنو يقضى وقتا مع العلماء ووقتا مع الأدباء، وقد خلُص إلى الآتى:

• العلماء عادة متفائلون ولهم نظرة مستقبلية ونزعة نحو حل المشاكل.
• الأدباء وخبراء العلوم الإنسانية ينظرون للماضى ويحاولون سبر أغوار النفس البشرية، وينظرون بتوجس للتقدم التكنولوجى.
• الهوة تتسع بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، هذه الهوة تجعل الاتصال بين الثقافتين أصعب. لاحظ أن الكتاب نُشر سنة 1959.
• ضعف الاتصال بين الثقافتين يضعف من قدرة المجتمع الإنسانى على حل المشاكل الكبرى مثل مشكلة الفقر ومشكلة الطاقة ومشكلة التعليم.
هذه النقاط أعتقد أنها ما زالت صحيحة حتى الآن، لكنه رأيى الشخصى ومطروح للنقاش. لكن العلاقة بين العلم والأدب ليست متوازنة، أى إن تأثير العلم على الأدب مختلف عن تأثير الأدب على العلم وهذا ما يظهره عنوان هذا المقال.
...

سطوة العلم على الأدب

قد يبدو هذا العنوان الفرعى مبالغًا فيه لأنه قد يعطى الانطباع أن العلم يملى على الأدب ما يجب كتابته، العلم لا يُملى على الأديب ما يكتب لكنه قد يؤثر عليه من حيث لا يدرى. عندما نستخدم كلمة العلم فإننا نعنى العلم والتكنولوجيا. دعنا نرى ما يحدث الآن من تأثير العلم على الأدب:
• العلم هو ما أعطى الأديب أدوات للعمل مثل أجهزة الكمبيوتر وبرمجيات الكتابة مثل الوورد. قد يبدو هذا أمرًا فرعيا لكن الكتابة باليد على ورق مختلف عن الكتابة على جهاز الكمبيوتر من حيث عمق ودقة التفكير. لا نقول أيهما أفضل لكن نقول إنهما مختلفان.
• نحن فى عصر المعلومات الغفيرة، أى أن هناك معلومات لا نهائية يستطيع الأديب الحصول عليها بضغطة زر على الكمبيوتر. هذا يزيد من اتساع المعرفة لكن على حساب العمق. على الجانب الإيجابى فهو يجعل الأديب يطوف العالم من مكانه ويحصل على أى معلومة بسرعة. حتى فى الأدب السردى هناك عملية بحثية يحتاج أن يقوم بها الكاتب قبل وأثناء الشروع فى العمل الإبداعى. هذه الخطوة أصبحت أكثر كفاءة.
• الآن ومع وجود برمجيات الذكاء الاصطناعى مثل (chatGPT) أصبح الأديب يمتلك مساعدا لا يكل ولا يمل يمكنه إعطاء أفكار أو تصحيح اللغة أو القيام بالبحث إلخ.
كما نرى العلم له تأثير كبير على عمل الأدباء، بل ودرجة تركيزهم ودقتهم وهذا يظهر بوضوح أكثر على الجيل الجديد من الأدباء. السؤال المطروح للمناقشة هو: هل هذا التأثير إيجابى فى مجمله؟ أم العكس هو الصحيح؟


ماذا عن تأثير الأدب على العلم؟
...

مراوغة الأدب للعلم:

تأثير الأدب على العلم مراوغ جدا. النشر العلمى فى المؤتمرات والمجلات العلمية المعتبرة يحتاج عبارات دقيقة، الأدب يستخدم الخيال والتشبيهات والاستعارات إلخ، هذه الأدوات البلاغية تسير عكس اتجاه الدقة العلمية فى الأبحاث المنشورة، لكن فى نفس الوقت الكتابة الأدبية تساعد على الانسيابية والسلاسة فى الكتابة، وهذا مطلوب حتى فى الأوراق العلمية المحكمة.
على الجانب الآخر عندما يتحدث العلماء للعامة فهنا يلعب الأدب دورًا أكبر. الإنسان كائن يحب القصص. سرد الحقائق العلمية بطريقة مباشرة وجافة لن تروق للعامة وبالتالى سينصرف الناس عن القراءة العلمية. لذا يجب وضع المعلومة العلمية فى إطار مشوق أى إطار قصصى، سواء قصة الاكتشاف نفسه أو قصة وسيرة مكتشفيه والمصاعب التى واجهتهم. كتابة كتاب علمى سواء موجه للعامة أو للخاصة يحتاج بعض الأدب بالإضافة إلى العلم. جرعة الأدب تزيد أو تنقص حسب ما إذا كان الكتاب موجة للعامة أم للمتخصصين.


...

نحن نحتاج إلى جيل مسلح بدقة العلم وبإحساس ونظرة العلوم الإنسانية، فى النهاية العلم ومن ثم التكنولوجيا هى أداة لكن العلوم الإنسانية تعطينا البوصلة. هناك بعض الخطوات التى قد تساعد فى هذا الهدف:

• الإكثار من الندوات الثقافية التى تستضيف علماء وأدباء يناقشون نفس المشكلة.
• تدريس مادة أدبية فى الكليات العلمية والعكس.
• نشر الثقافة العلمية الموجهة للعامة سواء عن طريق المقالات أو الكتب.
أحب أن أختم هذا المقال بمقولة للأستاذ أحمد أمين الكاتب والمفكر، قرأتها فى الجزء العاشر من مجلدات «فيض الخاطر» التى تجمع مقالات الأستاذ: «العلم لغة العقل، والأدب لغة العاطفة، ولكن لا بد فى هذه الحياة أن يلطَّف العلم بالأدب، والأدب بالعلم؛ فالعقل إذا جمح استخفَّ بالشعور، وجعل الحياة ثمنًا للعلم، وهو إذا مزج بشىء من الأدب مسَّ الحياة ورفَّه على الناس، والعاطفة إذا شردت كانت ثورانًا وهياجًا».

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات