كلما أحكم مجتمعنا حصاره على السلطوية الحاكمة، انصرافا عن السلطة التنفيذية وعزوفا عن خطابها الرسمى ورفضا للمشاركة فى صنوف إلهاء الناس عن واقع الظلم والفقر والفساد وتفنيدا لوهم القبول الشعبى للحاكم الفرد المروج له إما من خلال «الأذرع الإعلامية» أو عبر تصنيع مشاهد تأييد زائفة لم تعد لها ذات الفاعلية التى كانت لها فى صيف 2013 وفى 2014 ــ كما يدلل على ذلك امتناع الناس عن المشاركة فى ملهاة الانتخابات البرلمانية 2015 على الرغم من مطالبة الحاكم لهم بالإدلاء بأصواتهم، أسجل كلما أحكم مجتمعنا حصاره على السلطوية الحاكمة كلما أمعن الحاكم فى الاعتماد الأحادى على الأجهزة الامنية والاستخباراتية لكى تقمع المواطن وتقيد حركة منظمات المجتمع المدنى، ظنا منه أن ذلك هو السبيل الوحيد للقضاء على مطالب التغيير والديمقراطية فى مهدها من ثم لبقائه هو وأعوانه فى مواقعهم. ووهما يظن!
ويرتبط بطغيان المكون الأمنى هذا تراكم مؤلم للممارسات القمعية ولانتهاكات حقوق الانسان، من سلب للحرية وحبس احتياطى لأعداد كبيرة من المصريات والمصريين دون سقف زمنى نهائى إلى التعذيب فى أماكن الاحتجاز والقتل خارج القانون. ويرتبط به ايضا تعاظم نفوذ الأجهزة الأمنية فى جميع قطاعات المجتمع. بعبارة بديلة، تختزل السلطة التنفيذية عملا فى مكونها الأمنى، وتحل «إدارة الجنرالات» محل السياسة التى أميتت ومحل من يسمون أنفسهم قوى سياسية وأحزاب سياسية وقبلوا الاقتصار على تقديم فروض الولاء والطاعة للحاكم الفرد و«تلقى التعليمات» من الجنرالات نظير الحماية وتجنب القمع وشىء من الحضور فى المجال العام.
من جهة ثانية، يرتب إحكام مجتمعنا لحصاره على السلطوية الحاكمة نزوع مناصرى وخدمة «السلطوية البديلة فى الانتظار» إلى محاولات متكررة لتجريد غيرهم من المعارضين من المصداقية والفاعلية. والسلطوية البديلة التى أشير إليها هنا هى سلطوية اليمين الدينى الذى يرفض إلى اليوم الاعتراف بمسئوليته أيضا عن إفشال تجربة التحول الديمقراطى 2011 ــ 2013 كما يمارى فى خطاياه الأخرى، شأنه شأن قوى اليمين واليسار التى زعمت دفاعها عن الدولة المدنية ودفعت بمعارضتها للحكم الدينى فقط لتبرر تدخل الجيش فى السياسة وتدعم السلطوية ذات الإسناد العسكرى والأمنى. أما مناصرو وخدمة سلطوية اليمين الدينى فشغلهم الشاغل هو اتهام جميع المختلفين معهم بالتورط فى الانتهاكات المروعة التى ارتبطت بالفض الدموى لاعتصامات جماعة الإخوان المسلمين وبالعنف الرسمى ضد قيادات وأعضاء الجماعة والمتعاطفين معها، إن من خلال التأييد الصريح للفض والانتهاكات أو بالصمت والتجاهل.
وبينما يحق، وبكل تأكيد، تحميل كثيرين بين صفوف اليمين واليسار فى مصر المسئولية الأخلاقية عن الانتهاكات المروعة إما لتحالفهم مع السلطوية الحاكمة أو لتعاملهم مع الانتهاكات بمعايير مزدوجة نزعت الإنسانية عن اليمين الدينى وبررت للقتل والتعذيب والسجن؛ فإن التنكر لإدانة نفر محدود من الليبراليين واليساريين المصريين للانتهاكات قبل وأثناء وبعد الفض الدموى للاعتصامات يجافى الواقع مثلما يتناقض مع الواقع تجاهل تورط بعض عناصر اليمين الدينى فى تبرير أو ممارسة العنف المضاد ــ وقد لفت نظرى فى الآونة الأخيرة تنكر بعض خدمة السلطوية البديلة لإدانتى لفض اعتصامى رابعة والنهضة حين حدث ورفضى لكل الانتهاكات الأخرى ودفاعى عن حقوق وحريات الضحايا دون صمت منذ صيف 2013 وإلى اليوم (مقالات متهافتة فى بعض الصحف ذات التمويل القطرى). غير أن هدف مناصرى وخدمة سلطوية اليمين الدينى هو تجريدنا من المصداقية والفاعلية، والتعتيم على خطاياهم، والظهور الزائف أمام الرأى العام بمظهر الأطراف الوحيدة التى تقاوم السلطوية الحاكمة.
بين إدارة الحاكم الفرد وجنرالات الأمن وبين تنكر اليمين الدينى لمن يدافعون عن الحقوق والحريات دون معايير مزدوجة، يتزايد ابتعاد الناس بأعداد مؤثرة عن الطرفين اللذين تبادلا خلال العقود الماضية التلاعب بمقدرات الوطن وأعاقا باستمرار التحول الديمقراطى، تماما كما ينصرف الناس عن اليمين واليسار اللذين استكانا لتلقى التعليمات من الجنرالات.
وثقوا أن ابتعاد الناس وانصرافهم لن يتوقفا!