قبل أيام، طرقت أذنيّ في المتجرِ الواسع عبارةٌ قصيرة؛ تُعاير فيها سيدةٌ أخرى بأن سَلتها تحملُ بضائعَ ضِمَن قائمة المُقاطعة. لفت انتباهي الحوارِ الذي دار، فقد تراجَعت صاحبةُ السَّلة على الفور وراحت تستَطلع ما يَجب أن تحذفَه وما يُمكن أن تُبقيَ عليه، أما التي نبَّهتها فقد كفَّت عن المُعايرةِ ما إن رأت الاستجابةَ، وتطوَّعت بالمُساعدة. أتى الموقفُ بنتيجةٍ حاسمة لم تكُن وحدها مَبعث دهشتي؛ إنما هذا الانتشار الهائل الذي حقَّقته الحملةُ خلال أسابيعٍ معدودات.
• • •
تقول قواميسُ اللغة العربيةِ إن الفعلَ عَايَر يَحوزُ معنين في آن: أنَّب وباهَى. عَاير الحرُّ مَن هم دونه بخُنوعهم واستسلامهم أي؛ وبَّخهم على أحوالِهم من ناحية، وتاه عليهم وفاخَرهم بعزتِه وحريَّته من ناحيةٍ أخرى. المُعايِر بكسرِ الياء فاعلٌ وبفتحِها مَفعولٌ به، أما المُعايَرة فمَصدر، وإذا قيل عيَّر بتشديد الياءِ وفتحِها؛ فنَسَبٌ إلى العار يفيد التقبيحَ والاحتقار.
• • •
سَمعت مِن جدَّتي ذات يوم الأمثولةَ الطريفة: "لا تعايرني ولا أعايرك الهمّ طايلني وطايلك"، والمعنى أن أوضاعَنا مُتشابهةٌ وخيبتَنا واحدةٌ، ومَواطِن الضَّعف على الجانبين ظاهرةٌ؛ يُمكن استغلالُها سواءً بسواء، ولا معني إذًا لتبادل الضَّربات. يكمُن المضمونُ ذاته في ذاك المَأثور الشهير الذي ينصح صاحبَ البيتِ الزُّجاجيّ أن يَكُفَّ عن رَمي الآخرين بالحجارة؛ فالحصيلةُ على الأغلبِ إصابةُ الجَّميع.
• • •
للذَّهب عيار يَشي بنسبة الشوائِب في عروقِه، ويُقرّر درجةَ نقائِه وخلوصِه من المعادن الأخرى؛ عيار الأربعة والعشرين هو الأصفى والأعظم قيمَة، فإن وُصِفَ به شخصٌ كان القَّصد مَديحًا رفيعًا لأخلاقه. تبيَّنت منذ فترةٍ قصيرة أن آخر مَعلوماتي عن الجُّنيه الذَّهب مُضحكةٌ إلى أقصى درجة، لما لا وهي تعوُد إلى مَرحلةِ مُبكِرة من الدراسة؛ إذ كان سعره على ما أذكُر في حدودِ الثلاثمائةِ جنيه؛ وإذا بي أسأل اليوم من بابِ الفُضول، فأدرك أنه تضاعفَ عشراتِ المرَّات.
• • •
العيار اللي ما يصيب يدوش؛ قولٌ شائع على الألسنةِ، وافر الاستعمالِ في أحاديثنا، والقصد منه أن الفعلَ الذي يُقدِم عليه المرءُ لا بد وأن تُرى له نتيجةٌ ما، حتى وإن لم يُحققُّ هدفَه كاملًا؛ فإنْ يخطُ الإنسانُ خطوةً واحدةً يتركُ على الأرضِ أثرًا، والحقُّ أن أعظم ما يقرر الواحد بينه وبين نفسِه أن يضعَ هدفَه قَيد التنفيذ، وأن يحاولَ ولو بدت المُحاولةُ يائسة، ولو تأكد من عدم نجاحِها؛ فمُجرَّد الشروع فيها يؤدي لإحداثِ تغيير، والتغيير تراكميٌّ لا يلبث أن يأتيَ بالمراد ولو بعد حين؛ تلك طبيعةُ الحياةِ لا يُمكن أن يعتريَها ركود أبديّ.
• • •
ليس بالضرورةِ أن يكون المِعيار ماديًا ملموسًا كالمازورة أو الميزان؛ فثمَّة مبادئ تُقاسُ عليها الأفعالُ، وثمَّة نوايا تُقدَّر بمقتضاها الوقائع والأحداثُ، وثمَّة أقوالٌ تُوزَن بها قيمةُ المَرء؛ وقد نقلَ لنا التاريخُ عن الأقدمين مقياسًا حساسًا قويمًا يُعرَف به الناسُ ويُصنَّفون؛ ذلك هو مدى التزامهم بكلمةٍ ينطقونها، ولم تزَل مَقولةُ الحُسين بن علي بن أبي طالب بهذا الشأن خالدةً، صالحةً لكلّ العصور؛ فالشرفُ هو الكلمةُ ولا حاجة به للمَزيد. سمعنا أقوالًا وتصريحاتٍ عدَّة ، وانتظرنا أن نرى تطبيقَها على أرضِ الواقع؛ لكن هَيهات. بقيت مُعلَّقة تائهة، تبحثُ عمَن يجسّدها ويحوِلّها إلى أفعال؛ فيردُّ بصنيعه إلينا بعضًا من الكرامةِ المُهدَرةِ.
• • •
اعتاد الصيادلةُ في زمنٍ ولَّى أن يُعايروا الموادَّ الفعالةَ ويضعونها في عبواتٍ لزبائنهم؛ لا يخطئون التقديرَ ولا يتجاوزون الوَصفةَ الدقيقة. كانت الأدواتُ حينها من التواضُع بمكان، ودقَّة اليدّ والعَين وحَصافةِ التقدير؛ تلعبُ دورًا لا يُنكَر في تحضير الدواءِ المطلوب، فإن اختلَّت هذه أو تلك؛ باتت المسئوليةُ جسيمةً والعاقبةُ وَخيمة. تحلُّ الأدواتُ الحديثة في وقتنا هذا محلَّ مهاراتِ البشر، تحملُ عبءَ القياسِ والمُعايرة والكَّيل، تقدم المُنتَج في صورتِه النهائيةِ الأنيقة؛ لكنها تفتقر ولا شكّ إلى ذاك الحِسّ الإنسانيّ الأصيلِ الذي يرى في كل فردٍ احتياجًا مختلفًا، ويدرك رغم تشابه الأجسادِ أن لكلّ روح ما يلائمها ويُشفيها.
• • •
العيارُ الفلتان تعبيرٌ يُشير إلى سلوكٍ جَامح لا يلتزم السائدَ ويصعب التحكُّم فيه، أما العيار الطائشُ هو ذلك الذي لا يُصيب هدفَه. قد يُخطئ عن عمد إن لم يُرِد مُطلقُه سوى التحذير، وقد يطيشُ عن قِلة مَهارةٍ وتدريب.
• • •
هناك شَعر عيرة وذقنٌ عيرة وغيرها الكثير؛ الشيءُ العيرة في تعبيراتنا اليوميَّة الدارجة هو الذي تمت استعارته؛ أيّ ليس أصيلًا في صاحبه. استمتع أغلبنا بمشاهدة ماري منيب؛ الحماهَ المُتسلطةَ التي تدسُّ أنفها في شئون عروسِ ولدِها المُرتقَبة، تدقق في وَجههِا وتطلبُ إليها كسر بعض النواشف لتطمئن إلى سلامةِ أسنانِها، ثم تجذب خصلاتِ شعرها لترى إن كانت ستغادر فروةَ رأسِها؛ فالأشياءُ المُستعارةُ لا تبقى مكانها طويلًا على عَكسِ الأصيلة.
• • •
قد يستعير المرءُ الكتُبَ والملابسَ، وقد يستعير الرأيَ والمَنشور، وبعضُ المراتِ يستعير اسمًا ليتخفى وراءه؛ فيكتب ما شاء دون أن يتعرَّفَ عليه أحد. ضمن أشهر مَن كتبوا تحت أسماءٍ مُستعارة: جين أوستن وجورج صاند وأجاثا كريستي، وكذلك فعلها الكاتبُ الساخر أحمد رجب مع إحدى مسرحياته؛ ولم يكن السبب حينها سياسيًا.
• • •
ثمَّة مَن يستعير لنفسِه واجهةً براقةً، يراها الآخرون ولا يُدركون ما خلفها. تمضي الأيامُ فتنضح مواقفُه بما توارى واختبأ وتظهر العتمةُ شاملة، وإذ يتآكل القناع المُستعار وتسقط الرتوشُ وتتبدَّى الحقائقُ كاشفةً دامغة؛ لا يعود في الإمكانِ خداع الناس، ولا تكون سوى خُطوة واحدة.