أميتت السياسة فى مصر، وبقيت طقوس تسجيل المواقف وإصدار البيانات وعقد المؤتمرات الصحفية والمشاركة فى اجتماعات تأسيسية لأحزاب قديمة / جديدة. قضى على الموضوعية والتعددية فى وسائل الإعلام إلى حد موجع، وبقيت مظاهر ديكورية تزعم التنوع بينما هى لا تقدم إلا تنويعات محدودة على الصوت الأوحد والرأى الأوحد. تحول تزييف وعى الناس إلى نشاط مهنى، وتجاهل المظالم والانتهاكات والمطالب العادلة للضحايا إلى صناعة إعلامية توظف زيفا وطنية هى منها براء وتبرر للعصف بسيادة القانون باستدعاء «ضرورات» مواجهة الإرهاب وتأويلها عبر الترويج لهيستيريا الخوف والعقاب الجماعى كرخصة شاملة ولا نهائية لطغيان النهج الأمنى ولتناسى العلاقة الطردية بين شيوع الاستبداد والسلطوية وبين قابلية البيئات المجتمعية لشرور الإرهاب والعنف والتطرف.
لم تحضر أبدا إرادة تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية وحضر دوما التكالب على الحكم والسلطة والنفوذ من قبل قوى وأطراف قديمة وجديدة يجمعها رفض العدالة الانتقالية ومن وراءه الاستخفاف بمسارات التحول الديمقراطى. وحضر أيضا صخب وضجيج اشتباكات كلامية أريد لها أن تغزو المجال العام وأن تورط دعاة الحقوق والحريات وأن تمارس بعنف لفظى وخطابى تسفيه الفكرة الديمقراطية وتشويه المطالبين.
إذا توافقنا على موضوعية المقدمات السابقة، سندرك أن خيطا ناظما يوحد بين أمور كالنصوص القمعية فى قانون التظاهر، والتعديلات المقيدة للحقوق وللحريات التى أدخلت على مواد قانونية أخرى (المادة 78 من قانون العقوبات نموذجا)، وسلب حرية مصريات ومصريين غير معلوم عددهم الإجمالى للرأى العام، وتغليب النهج الأمنى فى التعامل مع ملفات كأوضاع الجامعات وأحوال منظمات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية، وتجاهل أصداء مطالب بعض القطاعات الشعبية والشبابية برفع المظالم والعودة إلى مسار تحول ديمقراطى حقيقى بل الامتناع عن الإنصات الجاد للمطالب هذه، والإخفاق المتكرر فى تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية غير المرغوب بها ولا بتوثيقها لحقائق المظالم والانتهاكات وكشفها للناس ومصارحتهم بها.
إذا توافقنا على الخيط الناظم هذا وعلى هيمنته على واقعنا الراهن فى مصر، سندرك أن المهمة الأساسية لدعاة الحقوق والحريات تتمثل فى تطوير وطرح أفكار بديلة تلهم الناس بتماسكها وتقنع بطاقتها التغييرية الملتزمة باستعادة القدرة على التقدم والسلم الأهلى للمجتمع وبالحفاظ على كيان الدولة الوطنية. لن تجدى البكائيات وغير مفيد نظم المراثى، بل الأولوية هى للاعتراف بأن قطاعات شعبية واسعة أرهقها عجز المدافعين عن الفكرة الديمقراطية عن صياغة بدائل متماسكة وعن تقديم إجابات مقنعة بشأن كيفية صناعة التحول الديمقراطى واندفعت تدريجيا إلى التخلى عن طلب الحقوق والحريات والعدالة الانتقالية وتبدو اليوم مستعدة للتعامل بمعايير مزدوجة مع الانتهاكات ومتقبلة للسلطوية الجديدة. وليس للاشتباك الكلامى مع القوى القديمة والجديدة المتكالبة على الحكم والسلطة فى مصر من تداعيات إلا تلك ذات الطبيعية السلبية وربما التدميرية على الفكرة الديمقراطية، فالأهم من نقد الأحكام والإجراءات والممارسات هو الخروج على الناس بتصور متكامل لعدالة انتقالية بها مكونات المصارحة والمحاسبة والتسامح للتعامل الفعال مع ماضى وحاضر المظالم والانتهاكات والفساد، والأهم أيضا هو الرؤية الشاملة بشأن تحول ديمقراطى تدار مساراته بفاعلية النفس الطويل ويمارس النقد الذاتى حيت تتوالى الهزائم والانكسارات ويستهدف تخليصنا من الاستبداد والسلطوية دون أن يغفل التحديات الراهنة للإرهاب والعنف والتطرف ولا يتهاون فى الدفاع المستمر عن سلم المجتمع وتماسك الدولة الوطنية.
غدًا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.