هل تبقى خيوطنا متعانقة؟ - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل تبقى خيوطنا متعانقة؟

نشر فى : الخميس 3 ديسمبر 2015 - 8:45 ص | آخر تحديث : الخميس 3 ديسمبر 2015 - 8:45 ص

يمتد المفرش المطرَز على الطاولة، خيوطه الذهبية متشابكة، متداخلة، متلاعبة بأناقة، تداعب القماش الكحلى فيظهر جمال الأزرق وبريق الفضى وفخامة الذهبى. أنظر إليه بحب، أتحسس التطريز النافر فأشعر بحركة ماكينة الخياطة وأكاد أسمع صوت الخياطة وهى تحكى لجارتها، العاملة على الماكينة المجاورة فى المشغل، عن حماتها التى تعيش معها منذ أن تزوجت ابنها الذى أحبته وهى مراهقة.

«والله هَلْكتنى حماتى»، تقول وهى تغيِر الخيط من الذهبى إلى الفضى فيظهر على القماش رسم الوردة الدمشقية. «طول النهار ماشية وَرايْ بالبيت عم تسأل ليش عملتوا هيك وليش ما عملتوا هيك».

***

تخرج من المشغل يوميا أعمالا فنية رائعة، مفارش معروفة للسوريين ولأغلب من زار سوريا، وهى مفارش الأغَبانى التى ترتبط فى مخيلتى بجهاز العروس وبحفلات العشاء وبالمناسبات السعيدة. الأغَبانى كلمة تركية يقال أن معناها «تطريز»، لكنها تصف مفارش اشتهرت بها دمشق قبل أن تصبح رمزا لطاولة السفرة السورية والمشرقية عموما.

فى كل بيت سورى يوجد مفرش أغَبانى، تتفاوت فخامة وكثافة التطريز ورِقَة القماش، من القطن إلى الأورغانزا إلى حرير الصاية المخطط، تختلف كثافة التطريز من البسيط إلى الكثيف المعقد. يتربع المفرش على الطاولة السورية، فيذكِر المرء بجمال البلد وتنوع أهلها، متداخلين فى المجتمع كالخيوط على القماش، يتعانقون فتظهر الوردة، يفترقون فيمشى كل لون فى طريقه، ثم يلتقى بخيط آخر فيتعانقان، وهكذا حتى تمتلئ المساحةُ بالخيوط والبلدُ بالأشخاص.

***

حملت معى مفرشى حين تركت سوريا للدراسة ثم للعمل ثم للزواج خارجها، ولا أذكر أننى اشتريت يوما مفارش غير الأغبانى. كانت مجموعتى تكبر فى كل زيارة لدمشق، أجلس لساعات طويلة متواصلة فى محل المفارش، يفتح البائع مئة قطعة أو أكثر أو أقل بقليل، حتى يصبح أمامى جبل من الألوان. يفتح الكثير من المفارش التى يعرف أننى لن أشتريها بسبب ألوانها أو حجمها غير المناسبين، لكنه يحرص أن يفردها أمامى لأرى دقة التطريز وجمال القماش. أشم رائحة القطن وألمس نعومة الحرير، أتأمل شكل التطريز فيقول البائع «هَيْ النَقْشِة اسمها حب الرمان، وهى المفضلة عند الأجانب لبساطتها، مو متل نَقْشِة العريشة المعقدة أو الوردة الدمشقية، سيدة الأشكال عند أهل الشام».

بعد كل زيارة إلى دمشق، أعود إلى مكان إقامتى وفى حقيبتى مفرش جديد، أستخدمه فى كل المناسبات وأحكى قصة التطريز لكل من يزورنى، أصر على أنه رمز لسوريا وجزء من هويتى داخل منزلى. حتى أنه ومع اشتعال الحرب فى بلدى، أصبح ضروريا جدا عندى أن أحافظ على مفارشى التى تحكى كل منها قصة عشاء تجَمَع حوله الأهل أو الأصدقاء، طاولة إفطار فى رمضان فى نيويورك جلس على رأسها الأب باولو المختفى فى سوريا، غداء بمناسبة عيد ميلاد والدى فى القاهرة، أو جلسة عمل امتدت حتى اضطررت أن أحضر العشاء لزملائى فألبست المائدة ثوب المساء.

***

اتصلت بقريبى فى دمشق يوما لأطمئن عليه، فسألنى «بِدِك شى من الشام؟» كيف أشرح له أننى أريد الكثير من الشام، أريد غرفتى التى درست فيها لامتحانات كثيرة، أريد مطبخنا الذى كنا نمضى فيه معظم وقتنا حين نكون فى المنزل، نشرب القهوة قرب النافذة، نذوق الطبخة بحجة أننا نتفحص مدى استوائها، ننتظر أن يرن هاتف البيت ونحن بانتظار اتصال الحبيب. يدخل أبى إلى المطبخ فى اللحظة التى تصب فيها أمى المهلبية فى أطباق صغيرة تشبه الأطباق الصينية، لونها أبيض وأزرق، تزينها بالفستق والقرفة، ونأكل نحن ما تبقى فى الحلة فوق النار. يلقى أبى نظرة نفهم منها أنه بانتظار وجبة الغداء، وأننا نؤخره بسبب المهلبية، فنرمى المفرش على الطاولة مسرعين بوضع الأطباق عليها حتى لا يلومنا.

«نعم بدِى شى من الشام» أقول له، «بدِى مفرش أغَبانى»، أقولها وأنا أشعر بالخجل من طلبى المترف بينما البلد تأكله النيران. «على عينى، أى لون وأى حجم؟» يسأل؛ أتخيل السيدات فى المشغل، أرى سفرة الطعام فى أول أيام رمضان، أشم رائحة البهارات حين ترفع أمى الغطاء عن شوربة الدجاج. «كل الألوان، أية ألوان، مو مهم، بدِى ألوان كتيرة، زاهية، وخيوط متشابكة، بدى شى يشبهنا، يشبه البلد».

يصمت قريبى وتصمت معه ضحكات الأصدقاء فى ليلة صيف دافئة، يصمت معه صوت جدتى حين كانت تعاتبنا لأن «المفرش مو مكوى مزبوط.» ثم يرد «تكرم عينك، رح ابعت لك أحلى مفرش»، يقولها لى عبر خط الهاتف الذى أسمع من خلاله صوت الانفجار من بعيد.
يصل مفرشى مع شخص جاء من دمشق، أفتح الكيس فتظهر أمامى سوريا بكل بهائها، جميلة ملونة سعيدة، ألوانها متداخلة مختلطة وتراثها حاضر. أتصل بقريبى لأشكره فيقول «منيح إنُهْ لْحِقتْ واشتريت لك المفرش، لأنُهْ اليوم سمعت إنُه المشغل انقصف والخياطة الوحيدة الباقية ماتت».

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات