خلتها لن ترحل. كائنات كثيرة فى حياتنا، بشر وغير بشر، نخالها باقية معنا لا تغادر. الآخرون يرحلون ولكن من ائتمناهم على أنفسنا وارادتنا ورأينا ومستقبلنا فهؤلاء حسب مخيلاتنا لا يرحلون. نحب بالشهوة المجنونة فيبتعدون أما من أحببنا بخلطة من عقل وقلب فهؤلاء باقون، لا نفرط فيهم ولا يفرطون فينا. الآخرون نعتادهم فى المناسبات وفى غيابها لا يذكروننا ولا نذكرهم، أما من اعتدناهم كل صباح اعتيادنا كوب الشاى وصحن الفول واعتدناهم مع حلول المساء نستكمل ما بدأناه سويا فى الصباح، وإن بدون كأس الشاى وصحن الفول، فهؤلاء لا يغيبون وإن غابوا فليلة ثم يعودون. قبل أسابيع سربوا إلينا أن صحيفة السفير اللبنانية، وهى منا وليست من الآخرين، تستعد للرحيل، واليوم يصل إلى علمنا أنها رحلت. كيف ترحل وقد ائتمناها وأحببناها واعتدناها. تركتنا لنلهث ونحن نركض من موقع الكترونى إلى موقع آخر وراء خبر صادق فى زمن الكذب ورأى يشفى غليلنا ويبرد صدورنا فى أجواء الغضب. رحلت السفير، وقريبا يحل أوان صحف أخرى.
***
من الشروق كنت وزملاء لى نكتب فى السفير، ومن السفير كان طلال سلمان وزملاء له يكتبون فى الشروق. هكذا بدأت العلاقة بين الصحافة اللبنانية والصحافة المصرية قبل قرن ونصف القرن وهكذا استمرت وإلى هنا وصلت. خلال هذه المسيرة الطويلة رحلت صحف أو توقفت وبقيت صحف، توسع البعض منها وتألق لفترة قبل أن يخبو، وانكمش بعض آخر لفترة ليعود بعدها ويزدهر. صحافة البلدين واجهت تحديات ضخمة وللحق قاومت ببسالة. واجهت فى لبنان الحرب الأهلية وخرجت منها أقوى مما كانت عندما نشبت، وكانت السفير فى الطليعة. وواجهت فى مصر عسف السلطة فى كل عصورها، عسف الانجليز وعسف القصر الملكى وعسف الأحزاب «الليبرالية» وعسف حكومة الثورة وحكومات الحرب والسلام وحكومة باسم الاسلام وحكومة محاربة الارهاب. بعد كل مواجهة، خاصة المواجهات المبكرة، خرجت عقول ومهارات صحفية أكفأ وأفضل. تعودت الصحافة على حيل النخب الحاكمة وتعلمت كيف تجاريها بل وتتفوق عليها، وتعود الحكام على عناد الصحافة وصمودها وحين الشعور بالضعف تجاهها كانوا يسرعون بتلفيق القضايا وفتح المعتقلات مرورا بحجب المعلومات وانتهاء بإغلاق الصحف.
***
«إنهم يذبحون الصحف»، سمعتها من صحفى أجنبى يعلق على حال الصحافة فى معظم الدول التى زارها أخيرا خلال رحلة له حول العالم. قال أينما تذهب ستجد حكومة تحاصر الصحف وتطارد الصحفيين. زار الهند، أكبر ديمقراطيات العالم حسب الترويج الأمريكى للديمقراطية، ليكتشف أن الصحفيين ممنوعون من دخول مبانى الحكومة ومؤسساتها. الديمقراطية هناك وفى عدد متزايد من دول العالم صارت تأتى بحكام غير ديمقراطيين. أنا شخصيا تنبأت بمصير مؤلم للصحافة الهندية يوم أعلن عن فوز الحزب الذى يرأسه نارندرا مودى فى الانتخابات النيابية. الرجل يقود حزبا شديد التطرف والتعصب، وهو نفسه غير مؤمن بالديمقراطية أو بحرية التعبير. يؤلمنى ما يحدث يوميا فى الإعلام الهندى فقد عشت فى الهند أتعلم ممارسة الحريات وأتمتع بقراءة أعلى مستوى ممكن من الكتابة فى صحافة قوية وحرة وفخورة بنفسها. أتألم لأننى أعرف أيضا أن الصحف الهندية مثل غيرها فى العالم تواجه أقوى التحديات فى شكل العجز المالى نتيجة انحسار الاعلانات، وتواجه فى الوقت نفسه منافسا لدودا محكوم له فى نظر المتخصصين بالنصر الحتمى، ألا وهو الإعلام الرقمى.
***
تابعت عن قرب ثم عن بعد صحافة أمريكا وعلاقتها بالسلطة. تابعتها لمدة طويلة ولم أقابل فى أى يوم خلالها هذا الخوف المعلن أحيانا والصامت أحيانا أخرى من المصير الذى ينتظر الصحف والصحفيين الأمريكيين على أيدى الرئيس الجديد. أجد صعوبة فى تحميل ترامب كل المسئولية عن تدهور علاقاته بالصحفيين؛ إذ كيف ينسى للصحف أن أكثر من 365 صحيفة أعلنت أثناء الحملة الانتخابية انحيازها لهلارى كلينتون خلال الحملة الانتخابية ولم يقف مؤيدا له سوى 11 صحيفة. كذلك أجد صعوبة فى تحميل الصحافة الأمريكية وحدها مسئولية هذا التدهور فى العلاقات، إذ كيف ينسى الصحفيون خديعة ترامب حين جرجرهم فى رحلة شاقة، هو يكذب وهم، كصحفيين وهو واجبهم، ينقلون الكذب ثم يحققون فيه. رحلة أضاعت على المواطن الأمريكى حقه فى أن يطالب ليقرأ ويسمع ويناقش خطة وبرنامج هذا المرشح للرئاسة. فوت ترامب على المواطن الفرصة وبدد وقت الصحفيين المرافقين له، بل بدد جهد ووقت الصحافة الأمريكية بأسرها وجعلها محل سخرية. الصحفى دانيال ديل وكان مرافقا لترامب فى الحملة الانتخابية كتب يقول إنه جمع وحده 560 قصة أو حقيقة زائفة أدلى بها ترامب، أى بمعدل عشرين خبرا زائفا للنشر كل يوم. واعترفت مؤسسة صحفية بأنها خصصت 18 صحفيا بمهمة محددة وهى التحقق من صحة ما يدلى به المرشح للرئاسة دونالد ترامب، أما الجارديان البريطانية فقد خصصت عمودا يوميا بعنوان «ترامب الكذاب»، الخلاصة أن الصحافة الأمريكية العتيدة سقطت فى كمين أعده لها ترامب ولن يكون سهلا عليها الخروج منه، وأنها، أى صحافة أمريكا، ومعها الناخبون خرجوا من الحملة الانتخابية كما دخلوها لا يعرفون شيئا عن خطط المرشح للرئاسة دونالد ترامب. إهانة لهذه القوة الإعلامية الهائلة ودرس تلقفه حكام عديدون فى الدول التى تمارس الديمقراطية بكثير من السخرية وبانتقائية هزلية.
***
السفير رحلت وصحف كثيرة أخرى تستعد للرحيل. لديها جميعا أسباب ومبررات واضحة ولكل منها بلا شك سبب أو أسباب خاصة. معظم حكومات العالم السلطوية كما الديمقراطية تكاد تكون متفقة على تجفيف مصادر الأخبار لحرمان الصحفيين من المعلومات، التى هى سبب وجودهم. نعرف من ظروفنا المحلية أن العمل الحكومى مهما كان أم تافها صار جزءا من أسرار الأمن القومى وعماد الحرب ضد الارهاب. يعرفون ما نعرف، يعرفون أن لا معلومات يعنى لا صحافة. ترامب نفسه تعهد بالتعامل بالقسوة اللازمة مع مسربى الأخبار الحكومية، وهو الدرس الذى تلقنه هو وغيره من الرئيس فلاديمير بوتين. من ناحية أخرى كان الصحفيون المتميزون هم الذين يمثلون صحفهم لدى قصور الحكم وبالذات القصر الرئاسى. لوحظ منذ مدة أن الرؤساء توقفوا إلا نادرا عن عقد مؤتمرات صحفية دورية يتبادلون خلالها مع الصحفيين النقاش الهادئ. هكذا فقدت الصحافة أهم مصدر مباشر للأخبار ومعها المعرفة الوثيقة بالرئيس ومساعديه، بل فقدوا أيضا ميزة السفر مع الرئيس على طائرته أو طائرات تؤجرها الصحف إلا أن كانت الصحيفة موالية ومطيعة. لاحظنا كذلك فى الآونة الأخيرة فى روسيا ودول فى أفريقيا وفى شرق أوروبا والعالم العربى جهودا مكثفة من جنب الحكومات للسخرية من الصحفيين وتشويه سمعتهم باستخدام القنوات الفضائية التى تملكها الدولة أو يملكها ممولون خاضعون للدولة، رغم أن الجميع يعرفون أنه بدون صحافة وصحفيين لن تقوى القنوات الفضائية على الاستمرار.
***
جاء فى إحدى أهم المجلات المتخصصة فى شئون الصحافة أن الصحف الأمريكية اكتشفت أن التغريدات أخطر سلاح يهدد كيانها ومستقبلها خصوصا منذ أن تعمد ترامب استخدام التويتر بكثافة وبرسائل متناقضة وبعضها مزيف تماما، الأمر الذى تسبب فى «تعطيل العمل الصحفى» وركض الصحفيين وراء أخبار مزورة يغرقهم بها الرئيس المنتخب. لن تجازف صحيفة فتهمل فى التعامل مع تغريدة من الرئيس وإن اهتمت فستجد نفسها لا تعمل شيئا سوى متابعة تغريدات الرئيس..لا سياسة ولا اقتصاد.. لا شىء.
لا أستهين بما يفعله ترامب. أنت كحاكم إذا أردت قتل صحيفة أو دفعها إلى موت بطىء فما عليك إلا أن تشغلها بأمور غير صحفية. حكومات كثيرة تجرب الآن تلفيق قضايا للصحفيين فتلهيهم هم وصحفهم ونقاباتهم فى الدفاع ودفع الغرامات والكفالات، اشغلها أيضا بالضغط الاقتصادى والأمنى وادفعها نحو طريق البيع للحكومة أو اعلان الإفلاس. سياسة كهذه كفيلة لأن تشل الصحفيين وتنشر الارتباك بينهم وتدفع ضعافهم إلى التهافت على الوقوف على أبواب السلطة أو نوافذها سعيا وراء ارضاء الحكم على حساب المهنة ومستقبل الصحيفة والصحافة بأسرها. ثم إنك إذا فعلت مثل ما فعله حكام روسيا البوتينية وتركيا الأردوغانية وأمريكا الترامباوية وطلبت من الصحف الالتزام بالنصوص الواردة إليها من جهاز مخصص لتوفير الأخبار وصياغة المادة الخبرية ومد الصحف بها، فستضمن ضمور الجسد الصحفى وانهيار منظومة القيم الصحفية وتضمن أيضا اقتناع الصحفيين بضرورة البحث عن وظائف فى مجال العلاقات العامة أو التخصص فى خدمة سفارات عربية وأجهزة اعلامية وسياسية أجنبية.
***
قالها صحفى لبنانى كبير، قال إنه إذا انتفت السياسة أو ضاق مجالها وأغلقت أو جفت مصادر الأخبار وتعمقت مهانة المهنة تحت القمع وتلوثت سمعتها بالتشهير والإفساد، فالموت البطىء لصحيفة بعد أخرى هو النهاية المحتومة.