سقطت أخبار فيروس كوفيد ــ 19 من خارطة الإعلام الغربى، وانفجرت صور الحرب الأوكرانية على الشاشات كافة مع عدسات حانية تفصيلية للحالات الإنسانية الهاربة من نيران الصواريخ الروسية، وخلف المشاهد المؤلمة للفارين والأبنية السكنية المنهارة وألعاب الأطفال المتناثرة مع ركام الجدران والأثاث المبعثر يعلق المراسل الأمريكى شارلى داغاتا موفد قناة «سى بى إس نيوز» بتأثر يقترب من البكاء قائلا: (هذا ليس مكانا مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقودا من الحروب. إنها مدينة أوروبية) مذيع آخر يلوح باستنكار حار (إنها أوكرانيا، إنهم سكان أوكرانيا ذوو البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الزرقاء)، يتكرر المعنى ذاته بكلمات أخرى بصوت البريطانى بيتر دوبى على شاشة الجزيرة الإنجليزية، ويقول الصحافى فيليب كوربيه، على قناة «بى إف إم تى فى» الفرنسية «لا نتحدث هنا عن سوريين هاربين من قصف النظام السورى، إنهم أوروبيون مثلنا، يهربون بسياراتهم التى تشبه سياراتنا)!!».
ثم تتبعثر السقطات الإعلامية من القنوات الدولية الكبرى مستندة إلى سقطات أخرى لساسة غربيين، كرئيس الوزراء البلغارى كيريل بيتكوف الذى رحب بكرم بالغ بتدفق المواطنين الأوكرانيين على بلاده مؤكدا أنهم ليسوا كما غيرهم من اللاجئين الذين اعتادت عليهم أوروبا، بل هم أذكياء ومتعلمون ولا يملكون ماضيا غامضا!!.
الجارة البولندية ذاتها التى أغلقت حدودها بقسوة وغلظة فى وجه مئات محدودة من العراقيين قبل أشهر قليلة فى عمق الشتاء الثلجى فتحت أبوابها بود مذهل للجيران من أوكرانيا، لنكتشف أن التضامن الإنسانى فى النكبات والكوارث إنما يعتمد على لون بشرتك وعدد الخصلات الذهبية فى شعرك، ولنتعرف على القصف الموجع وذلك الذى لا تلتقطه الحواس الإنسانية، فالمآسى القادمة من دول أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو الدول العربية لا تؤلم القلوب البيضاء ولا تحرك الرحمة المشروطة بجنسية اللاجئ.
لا تبدو اللغة الإعلامية المتداولة غريبة على الإعلام الغربى الذى تختلف معالجته الإعلامية للأزمات باختلاف لون المأساة وموقعها، فبينما سادت المهنية الإعلامية التغطية الأوروبية لجائحة كوفيد 19 وضحاياها، نجد بثا مؤلما لصور حرق الجثث فى بعض الولايات الهندية، وبالرغم من أن نصف ضحايا فيروس كوفيد هم من سكان القارة البيضاء لكن الإعلام الغربى نأى عن نشر صور مروعة تجرح متابعيه.
وإثر تفشى وباء إيبولا بين عامى 2014 ــ 2016 فى عدة دول أفريقية ووفاة ما يزيد عن 11 ألف شخص، ركزت التغطية الإعلامية على جثث الضحايا المعبأة فى الأكياس وعلى طقوس الوفاة الأفريقية، عارضة الكارثة بصورة غرائبية تعمق الصورة النمطية عن سكان أفريقيا، لتقدم جائزة بولتزر للتصوير لمصور مستقل وثق جمع جثث ضحايا وباء إيبولا لصالح صحفية نيويورك تايمز. يقول براهما تشيلانى ــ أستاذ الدراسات الاستراتيجية فى مركز نيودلهى للأبحاث السياسية ــ (لم تظهر تغطية جائحة كورونا، وهى أضخم مأساة صحية فى زماننا، فى أى من جوائز «بوليتزر» وإن حدث ستكون بمثابة مفاجأة مدوية، إذا سلمت الجائزة إلى صحفيين عملوا على توثيق حالات الوفيات الناجمة عن الجائحة فى العالم الغربى، لأن وسائل الإعلام الغربية تعمل على التغطية الفجة للمعاناة، والأحزان، واليأس، التى تأتى من أماكن بعيدة عن دولها. وعلى الرغم من عدم نشر صور الجنود الأمريكيين القتلى إلا نادرا، إلا أن صور الجنود الأفغان والعراقيين والآخرين شائعة الظهور فى وسائل الإعلام الأمريكية).
كشفت التغطية الإعلامية للحرب الأوكرانية القناع عن العنصرية الدفينة فى المخيلة الغربية التى ما زالت تصدق فى تفوق العرق الأبيض والتى استند إليها فى تبرير احتلال دول ذات سيادة ونهب ثرواتها وتدمير بنيانها. وتعكس اللغة الإعلامية المكسوة بالاستعلاء والغطرسة مدى التغلغل العميق للعنصرية فى بنية المؤسسات الإعلامية الغربية التى هى بدورها انعكاس للعنصرية المتجذرة فى الفكر والفلسفة الغربية، فبالرغم مما وفره عصر التنوير من تحرر، فهو العصر نفسه الذى أسس للاستعمار وقدم المبرر الفكرى والأخلاقى للدول الغربية لبسط نفوذها على دول أخرى واحتلالها وإجهاض فرص تنميتها، فقد روج الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط ــ كما آخرين ــ لفطرية الاختلافات بين البشر مميزا إياهم وفق اللون معتبرا أن أصحاب البشرة البيضاء هم الجنس البشرى الأكثر ذكاءً وقدرة على بناء الحضارة، يليه ذوو البشرة الصفراء، ثم يضع البشر ذوى البشرة الداكنة إلى المرتبة الثالثة ويليهم الأعراق الأخرى معتبرا أن السكان الأصليين للأمريكيتين ــ من يطلقون عليهم الهنود الحمر ــ هم أقل الأعراق البشرية تحضرا مدعيا أن لون البشرة يرتبط أيضا بتفاوت فى القدرات العقلية.
تعمق التغطية الفجة للحروب والصراعات فى الدول النامية من ترسيخ الفكرة النمطية للمجتمعات الغارقة فى المآسى؛ فتنتشر صور مخيمات اللاجئين التى يسكنها الحرمان والفقر والعنف، ومعها تتعمق وتترسخ الصورة المرغوبة عن هذا المواطن البعيد الغارق فى الجهل والعوز والذى يستحق منا نظرات الشفقة وربما إعلان مُوقّع من منظمة إغاثة دولية تحث القلوب العطوفة فى الدول البادرة على جمع التبرعات ليتحقق الهدف ثلاثى الأبعاد من غسل الضمائر ببعض الدولارات وإخضاع الدول بهبة مالية وإبقاء الفقر حيا فى دول الجنوب.
وبرغم تشابه المآسى التى يواجهها الشعب الأوكرانى من قسوة التهجير وألم الفقد والاقتلاع الدامى مع نفس ما يواجهه الشعب السورى واليمنى والأفغانى ومن قبل وإلى اللحظة وغدا الفلسطينى، لكن التغطية الإعلامية والتعليقات التى تغدق وصفا لا تتشابه ولن تتشابه، فالإنسانية التى يتساوى فيها البشر حقا وكرامة لم تصل بعد.