عرفت أسطى نجارًا من أمهر مَن التقيت في صَنعتِه؛ تعلَّمت منه كيف هي دَقَّة المسمار التي لا تنحرف ولا تطيش. قال لي يومًا إن على المطرقة أن تدقَّ الرأسَ من مسافة قصيرة وبخفة؛ فتضبط وضع المسمارَ وتشبكه في مكانه، ثم توافيه بدقةٍ أقوى؛ تدفعه في خطّ مستقيم وتثبته، وكهذا دواليك. لم يُفلِت مني مِسمارٌ منذ اتبعت الطريقة، ولم تخِب الدقَّاتُ التي توالت على مَرّ السنين.
• • •
الدقَّةُ في قواميس اللغة العربية هي المرةُ الواحدةُ من الفعل دقَّ، أما الدقَّاق فصيغةُ مُبالغَةٍ تعني كثيرَ الدقّ، والكلمةُ تُطلَق لهذا السبب على المِثقاب الذي يُمكنه التعامُل مع الحوائطِ الخرسانية؛ إذ لا تصلح معها الطرائقُ العادية.
• • •
الدقَّةُ أيضًا وحدةُ إيقاعٍ صارمة ما تكرَّرت، وانتظمت المسافاتُ الفاصلةُ بينها واستوى زمنُها، وآلاتُ الإيقاع كثيرةٌ مُتنوعة؛ الرِقُّ والدفُّ والطبولُ بأحجامِها وصورِها، تضبطُ الحركةَ المُصاحبة، والراقصُ الماهر يتبع بحسه الإيقاع لا الألحان، فيأتي بالبدائع.
• • •
إيقاع القلبِ بدورِه مَحسوبٌ، فإن اختلَّت دقاتُه اختلَّ الجَّسد واضطرب، وفي بعض الحالات يرتبك المايسترو الذي يقود العضلةَ، وتأتي في غير موعدها دقةُّ؛ فإذا القلبُ كلُّه في ارتباك. ربما لا تنحصر الأسبابُ في علّة أو مَرض، إنما تتسع لتشملَ عميقَ الانفعالات وعنيفَها. خوفٌ شديد أو حبٌّ وليد؛ كلاهما يدقُّ له القلبُ على غير ما اعتاد. غنى عبد العزيز محمود لمنديل الحلو، وكأنى بقلبه آلة إيقاع، تنظم الطربَ وتعطي للحياةِ رونقَها ومعناها.
• • •
في زَمَنٍ مَضى، كانت لدقَّةِ الهَوْن دِلالةً لا تخطئها أُذنٌ، ولا تغفل عن مغزاها مَعدةٌ مُشتاقة؛ فإناءٌ تفوح منه رائحة الملوخية، لا يكتمل مذاقه إلا مع الثوم المهروس المقليّ الذي يصنع “الطشَّة“ المَوصوفة. لم يعد الرنينُ النحاسيّ الصادح يُسمَع في يومنا هذا، فقد انقرضَ الهَوْن من عديدِ البيوت، وحلَّت مَحلَّه أجهزةٌ كهربائية تؤدي الفعلَ بجدراة، وتختصر الوقتَ والجهدَ، لكنها لا تترك في النفس الأثرَ ذاته ولا تبعث على الشغفَ بالنتيجة.
• • •
دقَّةُ زار؛ فيلم ثمانينيّ يراود عنوانُه الذاكرة إذ يضم مجموعة مميزة من الفنانين في مقدمتهم الرائعة سهير البابلي، وبعيدًا عن الدراما التي يقدمها الفيلم، ورغم ما علق بالزار من خرافات وما التصق به من دجل؛ فلعلَّه وسيلةٌ عتيقةٌ وفعَّالة للتخلُّص من الضغوط، والحقُّ أن صالاتِ الرقص وحصَص الإحماءِ ومَجموعات التخسيس التي تمارس تدريباتٍ جسديةٍ عنيفة في النوادي والمراكز الرياضية بل وبعض المُجتمعاتِ المُغلقة؛ إنما هي مكافئٌ مَوضُوعيّ- أكثر أناقة- لحلقاتِ الزارِ والذِكر وغيرها.
• • •
صوتُ النعلِ على الأرض قد يُفصِح عن الماشي؛ دقَّةٌ قويةٌ ثقيلةٌ لحذاءٍ ضخم، لا يمكن إلا أن تكون لرَجُلٍ، ودقَّةٌ خفيفةٌ مُنمَّقة لكعبٍ رفيعٍ عالٍ، غالبًا ما تشير إلى سيدةٍ على قدر من الأناقة. في حديثٍ دار بين ثلاث صَديقات ستينيات التقين بعد طول غيابٍ، وقد جمعتهن علاقةٌ حميمةٌ منذ أيام الدراسة، قالت واحدةٌ للأخريين تعاتبهن في استنكار: تلبسن الآن أحذيًة مَطاطية؟! بهدَلة وقلَّة قيمة! كانت لكُلّ واحدة مِنهن دوافعها المَنطقية؛ تسوقُها بناءً على ما اعتادت في بيئةٍ عملِها، وما تطلبته أصولُ اللياقةِ منها، وما بدا حينها ضروريًا لا يُمكن التغاضي عنه؛ فلا الأولى اقتنعت بالراحةِ التي يوفرها الكاوتشوك، ولا قررت الأخريان أن تعودا للحذاءِ التقليديّ العريق.
• • •
دقَّةُ حدوةِ الفرسِ كاشفةٌ، تُعرف بها أصالتُه، ومهارةُ الفارسِ على صَهوتِه، وكما يضرب الحصان الأرض، يفعل محترفو الكلاكيت: ذاك الفن الذي أظنه هو الآخر في طريق الاندثار.
• • •
ليست الدقَّةُ صوتًا في الأحوال كلها. دقُّة الوشم على سبيل المثال فعلٌ يتكلَّل بالحصول على صورة يُرجى لها الدوامُ؛ لا على ورقٍ أو نسيجٍ أو حتى لوح خشبيّ، بل على جلدِ كائنٍ حيّ. يختار الموشوم ما أحبَّ أغلب الأحيان؛ إلا في مواقف استثنائية يحتاج تفصيلها إلى مساحات. يلعب الوشمُ في فيلم حسن ونعيمة دورًا رئيسًا؛ فوجه البطلةِ الجميل محفور على الصدر، لا يمحوه إلا ماء النار، مع هذا يسعى البطلُ لإزالته؛ إذ وَجَع الخيانة يفوق وَجَعَ الكيّ، ودقةُّ القلبِ العاشق استحالت غَضبًا هادرًا.
• • •
إذا وصفَ شخصٌ آخرَ بأنه دقَّةٌ قديمةٌ؛ فالقصد أن الزمنَ تجاوزه، عبره وهو باقٍ في مكانِه، لم يخطُ مع السائرين ولم يتطوَّر. قد تعكس الملابسُ هذا الوصفَ، وقد تنمُّ عنه طريقةُ الحياةِ بأكملها. هؤلاء الذين لا يزالون يحتفظون بأشرطة موسيقى محدودة السعة بدلًا من الوسائط الإلكترونية الحديثة؛ قد يوصفون بأنهم "دقة قديمة"، ومثلهم هؤلاء الذين يستخدمون الهواتفَ الأرضيةَ ويعزِفون عن المَحمول، وكذلك مَن يفضلون المَخرطةَ على الخلَّاط، ومَن يختارون البنطال القماش ذا الكسرة ويأنفون ارتداءَ الجينز. الالتصاق بما ولَّى حنينٌ وخوفٌ وركودٌ في الوقتِ نفسه.
• • •
إذا دقَّ جرسُ الباب فثمَّة زائر؛ ولبعض الزوار دقَّة خاصة، فهذا يدقُّ مرةً واحدة لا تتكرر، وذاك لا يرفع يده حتى يُفتَح له الباب.
• • •
لا تزال دقَّاتُ ساعة جامعة القاهرة تعلِن علينا الوقتَ عبر مَوجات الأثير، فكأنها أبديةُ الوجود وكأن الكونَ لن يسيرَ ما لم تدق. يبهجني إعلانُ المذيع عنها، ففيها رحيقٌ من أصالةٍ وبقيةٌ من تاريخٍ لا يفتأ يتآكل تاركًا من الفراغ ما يستعصى ملؤه.