فى القاهرة، حيث أعيش، أحاول يوميا أن أفك سر ارتباطى بمدينة أصبحت شديدة القسوة على أهلها، وبات أهلها يبادلونها الشعور ذاته. هى مدينة لطالما تغنى بجمالها الزوار على مر العصور، لكنى أبذل جهدا اليوم فى البحث عما تبقى من آثار حسنها. على طول الطريق الدائرى الملتف حول المدينة تطل عمارات غير مكتملة على ركاب الحافلات، حتى وإن حاول بعض سكان العمارات تجميل طابقهم من خلال تلوين حيطانهم الخارجية، فترى طابقا وردى اللون مثلا يبتسم لك من وسط عمارة ما زالت واجهتها من الطوب الأحمر غير مكتملة الدهان.
القاهرة اسم على مسمى، قهرت الأعداء إنما ها هى تقهر الأبناء أيضا.
***
علاقتى بها تذكرنى بما يكتب عن نوع من العلاقات بين حبيبة ورجل يهملها: تحبه، تحتاج أن تكون معه، يخيب أملها حين لا يبادلها المودة فهو مشغول بنفسه. تحاول أن تقاطعه وتستقل عنه فيعود ويعاتبها فى يوم تكون فيه ضعيفة بعض الشىء وتركض إليه وهى تعلم أن حبه لها لن يدوم.
قاسية أنت أيتها المدينة الكبيرة التى فاض جسدها عن القماش الملتف حول صدرها وأردافها فتفتق وظهرت مفاتن سرعان ما فقدت جمالها بسبب نهش من حولها لها. من هنا حاول أحدهم رثى القماش لكنه لم يراع لون الخيط. من هناك تبرع آخر بتغطية جسدك بورقة لم تغط الكثير إنما زادت من شعث مظهرك.
كم أنت مهملة يا جميلة وقد هان على أهلك ضربك بالسكين حتى بت تتقيئين فى وجهنا جميعا دون أن نملك دواء نقدمه لك فيعيد بعضا من رونقك، فالجمال لا عمر له وكثيرات هن من يبقين جميلات رغم تقدمهن فى السن، لماذا لم تكونى منهن؟
***
أنظر فى الوجوه من حولى فأجدها منهكة، يلهث أصحابها وهم يتمسكون بطرف حافلة النقل العام التى تضغط على أجسادهم وتكاد تلفظهم عند كل مطب. أسمع شكاوى من حيث أقف فى القطار دون أن أرى أصحاب الصوت إذ إننى بالكاد أستطيع أن أتنفس من شدة الزحام. أكتفى باستراق السمع إلى قصص عن متاعب الحياة وصعوبة تأمين العلاج والأمل بسفر إلى بلد أكثر رأفة بسكانه.
***
أريد أن أتصالح مع القاهرة، المدينة التى تبنتنى والتى أحببت فيها فتبنيتها أيضا. أمشى فى أزقة ضيقة أبحث فيها عن ابتسامة سكانها وسلامهم. «يا صباح الجمال» تقول السمراء وهى تراقب ابنها يرش الماء أمام الدكان. يلمع قرط من الذهب فى أذنها وسن من الفضة فى ابتسامتها. وأشم رائحة التراب بعد المطر مع كل رشة ماء على بلاط الزقاق.
أريد أن أتصالح لكنى أكاد أخرج عن طورى كل ما رمى أحدهم القمامة أمامى على أرض المدينة وكأنه يلطخ وجه جدته بالفحم. أريد أن أتصالح لكنى أكاد أن أخدش من يحفر اسمه على معالمك فأنا لا أفهم دعوى هذا التخريب. أريد أن أرى جمالك حتى إن شاخ لكن أولادك يدمرونك باستمرار حتى اختفت نظرتك البراقة مع اختفاء زرقة ماء النيل تحت التلوث.
لقد استهتر بك أبناؤك الأكبر فأصبحوا مثالا احتذى به أطفالهم وها أنت الآن كأم أنجبت عشرة أولاد هجروها جميعهم بعد أن كرهوها لقسوتها وحاولوا تدميرها. ماذا تفعلين فى شيخوختك؟ من يهتم بك فى كبرك؟ كيف أستطيع أن أبطئ أثر الزمن على ما بقى منك حتى لا يفتفته من حولك؟
***
يا جميلة يا أم الدنيا يا من احتضنت الكثيرين من قبلى وتبنت من أحبتهم وأحبوها، ما أتعسك اليوم وكم أنا حزينة على حزنك. ها أنا أبتعد عن شوارعك، عن روحك وعن ضوضائك وأبنى لنفسى عالما صغيرا أحتمى داخله. أعيش ضمن حدود أشيدها بحزم خوفا من أن تحطمينى إن لم أتقوقع على نفسى. فى دائرة مغلقة أعيد ترتيب علاقتى بك على أسس ضيقة علنى أحافظ على بعض من حبى لك. أدخل معى فى عالمى الضيق الذى أقتطعه منك أصدقاء وشوارع يعاملونى برفق. أعيد تصورى لك وأغض الطرف عن قسوتك التى أراها كل يوم فى القطار وفى طوابير الإدارات العامة وأمام أكشاك توزيع الخبز. ترافقنى قصص سمعتها من أهلك على مدى سنوات حياتى قربهم فأحاول خلق ذاكرة بصرية تعتمد على حكايات الآخرين.
هم مصرون أن قاهرتهم ليست هذه القاهرة. يعيدون سرد تفاصيل كنت قرأتها فى كتب وشاهدت بعضا منها فى أفلام لكنى لم أشاهدها بنفسى. لا يهم. أريد أن أصدقهم وأن أبحث فى زواياك المنسية عن تفاصيلهم فأحبك من خلال عيون أبنائك.
***
«لماذا لا نسافر؟» باتت جملة كثيرة التداول من حولى. لا أريد أن أسافر... ربما لأن هجر الحبيب قرار لا يأخذه الكثيرون وقد أكون أنا ممن لا يقوون على الهجر. ربما لأننى مع العمر بدأت أتعلق بتجاعيد الحبيب وأجد وضعية أنام فيها بين تضاريس جسد من أحب فلا أطيق أن أستبدله بمال الدنيا. ربما لأننى فعلا وضعت سقفا منخفضا لتوقعاتى وقررت أن أركز على وجود من أحب من حولى. نحن معا فى هذه السفينة، سوف نحاول ألا نغرق.