اهتممت بعرض مشروع إنشاء مجلس أعلى للتعليم والتدريب للمناقشة فى إطار المحور المجتمعى بالحوار الوطنى، وتساءلت ما هو الطريق إلى مواجهة ناجحة لقضية التعليم فى مصر، وهى قضية تثير الكثير من الشجون، لدى العديدين، ومنهم كاتب هذا المقال الذى قضى أكثر من أربعة عقود يمارس التدريس الجامعى فى أكثر من مؤسسة مرموقة فى مصر وخارجها.
والحق أن تسمية حالة التعليم فى مصر بقضية يكاد يكون التفافا على وضعه الحقيقى، والذى ربما يكون من الأوفق وصفه بأزمة تبدو أهم علاماتها فى تدنى مستوى الخريجين والخريجات فى كافة مراحله، وافتقاد الصلة بين مخرجات التعليم والطلب على خريجيه وخريجاته فى سوق العمل، والذين كلما ارتفع مستواهم التعليمى قل الطلب عليهم، وانعدام العلاقة بين سنوات التعليم والدخل الذى يحصل عليه من قضى أطولها فى تحصيل العلم، ومن ثم لا يجد هؤلاء، وهم خريجو كليات الطب والهندسة، سبيلا أمامهم سوى الهجرة من البلاد إلى حيث يجدون تقديرا لما اكتسبوه من علم أو خبرة داخل ربوع الوطن.
عندما تدور بخاطرى هذه الأفكار يلح علىّ السؤال: وهل فى تشكيل المجلس الأعلى للتعليم والتدريب والبحث العلمى، حتى مع الأخذ فى الاعتبار بكل الملاحظات التى أبداها المشاركون والمشاركات فى مناقشة مشروعه، نجد الحل لهذه الأزمة؟
قد يسهم ذلك فى مواجهة الأزمة، ولكن الأزمة تقتضى مواجهة جادة وأوسع، وعلى جبهات مختلفة عن كل التكوينات البيروقراطية التى قد يكون لها دور فى التصدى لها.
باختصار شديد إذا كانت أزمة التعليم فى مصر هى بالفعل قضية أمن قومى تجد دليلها فى كون الدول التى تتربع على عرش القوة فى إقليمنا الشرق أوسطى هى تحديدا الدول ذات الإنجاز العلمى المبهر سواء كانت إسرائيل أو إيران أو تركيا، كما لا تهمل دول صاعدة أخرى مثل السعودية أو الإمارات العربية المتحدة دور التعليم والبحث العلمى فى بناء قوتها الذاتية كما تفصح عن ذلك البيانات الدولية الخاصة بترتيب الجامعات ومستوى تدريس الرياضيات والعلوم الطبيعية. فلا مفر من أن تصبح قضية النهوض بالتعليم فى كافة مراحله هى الأولوية العليا للسياسات العامة فى مصر، وأن تتعامل الدولة بجميع مؤسساتها وكذلك المجتمع بكل الجدية التى يقتضيها توصيف حالة التعليم فى مصر بأنه أزمة.
وسوف يفصل هذا المقال فى مؤشرات التعامل الجاد مع هذه الأزمة من جانب الدولة ومن جانب المجتمع، دونما أى ادعاء بأن هذا المقال المختصر يفى بكل جوانب الجدية المطلوبة فى هذا المجال.
علامات اهتمام الدولة بمواجهة أزمة التعليم
أول علامات اهتمام الدولة بأزمة التعليم هى أن يصبح التعليم شغلا شاغلا لرئيس الدولة، وبندا ثابتا على جدول أعماله، وكما يهتم مثلا بالمتابعة شبه الأسبوعية للتقدم فى مشروعات البنية الأساسية أتمنى أن يلقى التعليم نفس الدرجة من الاهتمام، ليس فقط باجتماعات أسبوعية مع المسئولين عن التعليم، ولكن بزيارات لمؤسساته وعلى وجه التحديد المؤسسات التعليمية الحكومية التى تستوعب ٩٠٪ من النشء فى مصر. وهى وحدها بخريجيها التى صنعت النهضة فى مصر الحديثة.
تصوروا معى أن رئيس الدولة يزور أسبوعيا واحدة من المدارس الابتدائية أو الثانوية خارج القاهرة والمدن الكبرى، وأن يلتقى بالطلاب وأعضاء هيئات التدريس فى الجامعات الحكومية التى لا تكاد تخلو من أى منها أى محافظة فى مصر؟ ألا يعنى ذلك أن روحا جديدة قد دبت فى تصدى الدولة لأزمة التعليم فى البلاد؟.
ولكن الاهتمام بالتعليم لا يجب أن يقتصر على عقد الاجتماعات والقيام بالزيارات من جانب أرفع المسئولين فى الدولة، بل يجب أن يترجم عمليا بزيادة هائلة فى مخصصات التعليم فى موازنة الدولة، وليس هناك طريق سوى ذلك إذا كنا نريد توفير مستوى راق من التعليم للنشء فى مصر، وهو الطريق لكى ترتفع مكانتها فى نظام عالمى تتحدد مكانة الدولة فيه بقدرتها على أن تتحول من مستهلك للمعرفة إلى منتج ومسخر لها فى خدمة تقدمها، وليس هناك سبيل غير ذلك لمواجهة مشكلة توفير فصول لمن أصبحوا فى سن تلقى العلم، وللقضاء على الاكتظاظ فى الفصول، وتوفير دخول كريمة للقائمين والقائمات بالتدريس فى المدارس والجامعات، وللقضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية الموازية ولاجتذاب التلاميذ للمدرسة الحكومية.
توفير الموارد ممكن عندما تكون أولويات السياسة العامة هى على النحو الصحيح، ووجهة التخصيص يجب أن تكون واضحة وقاطعة: هى للمدارس والجامعات الحكومية، وليست لما أطلق عليه خطأ جامعات أهلية، فمن لا يرغبون فى تلقى العلم فى المدارس والجامعات الحكومية أمامهم المدارس والجامعات الخاصة، والجامعات الأهلية بالمعنى الصحيح هى تلك التى يمولها المواطنون ويريدون لها ألا تهدف لتحقيق الربح الذى هو هدف مشروع للمدارس والجامعات الخاصة، مع قيام الحكومة بالرقابة على هذه المؤسسات الخاصة والأهلية لضمان تلقى طلابها كحد أدنى نفس مضمون المقررات المناظرة فى المدارس والجامعات الحكومية فضلا عما قد تضيفه لهم، وهو ما لم يتحقق مثلا فى بعض كليات الطب فى الجامعات الخاصة التى لا توجد بها مستشفيات يتدرب فيها طلابها، وأن تتوقف الحكومة عن حث الجامعات الحكومية على إنشاء ما تسميه بجامعات أهلية من مواردها على حساب تلبية مطالب مشروعة من جانب كلياتها تتعلق بالأماكن أو المعامل أو تسهيل ارتياد المكتبات الجامعية.
طبعا هذا لا يكفى لضمان اهتمام الدولة بإصلاح التعليم، المتابعة المستمرة لجهود الإصلاح هى العلامة الثالثة فى هذا السياق، وأذكر فى مؤتمر عقدته جمعية الصداقة البريطانية المصرية منذ سنوات عرض لتجربة إصلاح التعليم فى بريطانيا فى ظل تولى حكومة تونى بلير السلطة (١٩٩٧ــ٢٠٠٧)، فقد حضر هذا المؤتمر المسئول عن المتابعة، وكان يشغل منصبه الذى يتولى هذه المهمة فى مكتب رئيس الوزراء ذاته، ويراقب تطبيق استراتيجية الإصلاح باستمرار، ويقدم تقريرا أسبوعيا وبمؤشرات كمية لرئيس الوزراء. والذى يتخذ الإجراءات المناسبة التى يوصى بها لضمان عدم التوانى فى تنفيذ الاستراتيجية. وأظن أن هذه الاستراتيجية قد نجحت. طبعا ليس فقط بسبب هذه المتابعة الدءوبة والمستمرة ولكن لأنها لقيت الاهتمام على أعلى مستوى فى الحكومة البريطانية وتوافرت لها الموارد المناسبة ولقيت تأييدا من الرأى العام البريطانى.
مؤشرات الجدية فى إدارة العملية التعليمية
الجدية التى نراها من جانب رئيس الدولة يجب أن تواكبها جدية مماثلة من جانب القائمين على إدارة العملية التعليمية، والتى تشير بعض الممارسات فى السنوات الأخيرة إلى عدم توافرها. هناك افتقاد الاستمرارية فى جهود الإصلاح. كل وزير يأتى بأفكاره وتخصص لها إمكانيات وموارد هائلة، ثم يخرج الوزير من منصبه، ويأتى خلفه ويضرب عرض الحائط تماما بما سار عليه سلفه. يعول البعض على أن يكون إنشاء المجلس الأعلى للتعليم والتدريب هو ضمان لاستمرار استراتيجية لا تتغير مع تداول المنصب بين شخصيات تختلف فى رؤاها، ولكن الوزير الجديد سيكون عضوا فى هذا المجلس، ومن ثم فقد يجد من الذرائع لطبع أسلوبه الخاص على تنفيذ الاستراتيجية وينتهى بذلك إلى الخروج عن الاستراتيجية أو تغيير أولوياتها، ولن يجد من يراجعه فى ذلك خصوصا إذا كانت الغلبة فى تشكيل المجلس الأعلى للوزراء، وكانوا هم الذين يختارون الخبراء الذين يتابعون تنفيذ الاستراتيجية.
العلامة الثانية على افتقاد الجدية هى الاستخفاف الشديد بمدة الفصل الدراسى أو الجامعى، ويكاد الفصل الجامعى فى مصر يكون من أقصر الفصول على مستوى العالم، فلا يكاد يتجاوز عشرة أسابيع، بينما يمتد فى كوريا الجنوبية وألمانيا والولايات المتحدة إلى ما يقرب من ستة عشر أسبوعا. وقد حدث مرات عديدة أن أُوقف الفصل الجامعى أو العام الدراسى فجأة وبدون أسباب معروفة قبل النهاية المحددة له بأسبوعين على نحو لم يمكن القائمين والقائمات بالتدريس من إنجاز كل ما كانوا يسعون لنقله لطلابهم.
وأخيرا فمن علامات الجدية عدم الرضوخ لضغوط الرأى العام سواء بالنسبة لمواعيد بدء العام الدراسى أو انتهائه، فيتأخر بدء العام الدراسى والجامعى حتى الأسبوع الثالث من سبتمبر «حتى يستمتع التلاميذ والطلاب بقضاء عطلة صيف مناسبة مع أسرهم» بينما يبدأ فى ألمانيا مثلا فى الأسبوع الأخير من أغسطس، ويبدأ فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة وفى الجامعات الأمريكية عموما فى الأسبوع الأول من سبتمبر، ويكاد يتوقف التدريس عمليا خلال شهر رمضان الكريم، فضلا عن كثرة العطلات فى المناسبات الدينية والوطنية مما يجعل العام الدراسى والجامعى فى مصر من الأقصر فى العالم رغم أننا الأحوج إلى مد فترته لتعويض ما يفصلنا عن العالم المتقدم من معرفة وقيم ومشاعر محبة للعلم. أو يستجيب المسئولون عن الامتحانات لضغوط الرأى العام للتخفيف من صعوبة أسئلة الامتحانات بصرف النظر عن اختلاف ذلك عن معايير التقويم الصحيح.
مؤشرات الجدية المجتمعية خارج العملية التعليمية
لاحظت ولاحظ كثير من زملائى انصرافا عن الانتظام فى الدروس من جانب أعداد لا يستهان بها من الطلاب الذكور تحديدا، على عكس الطالبات اللاتى يظهرن اهتماما أكبر، وهذه الملاحظة لا تقتصر على مصر، فقد أعربت دوائر بريطانية عن نفس الظاهرة. وقيل انطباعيا أن من بين أسبابها فى مصر أن التعليم لم يعد طريقا للرقى الاجتماعى، ولا للحصول على دخل مناسب أو حتى فرصة عمل إلا للمحظوظين من الأسر ذات النفوذ، وخصوصا أن هناك ما يبدو أنه توريث للوظائف المتميزة بل وحتى مجرد الوظيفة لأبناء وبنات العاملين فى نفس الأجهزة، وبكل تأكيد فى القطاع الخاص.
فهل من سبيل لكى يستعيد التعليم والجدية فى التحصيل واكتساب المعرفة مواقعهما المأمولة فى تكوين شخصية النشء فى مجتمعنا؟ سؤال تصعب الإجابة عليه. ولكن ربما مما يساعد على ذلك أن يعكس الخطاب السياسى أهمية العلم، كعنصر مهم فى اتخاذ القرار، فلا يقال مثلا أن القيام بدراسات الجدوى يبطئ من معدل تنفيذ المشروعات القومية. ومما يعزز من تقدير المجتمع للعلم أن يكون الخبراء مشاركين على قدم المساواة فى اتخاذ القرارات المهمة فى الاقتصاد والسياسة وتخطيط المدن وشئون المجتمع، وأن تكون مشاركتهم علنية ومعروفة، وأخيرا أن يعكس هيكل الأجور والمرتبات التفاوت فى مستويات ونوعيات التعليم وحدود الخبرة المتراكمة. وتلك مجرد خطوات على طريق طويل. وليجتهد فى اقتراح سبل ارتفاع العلم فى سلم القيم فى المجتمع المجتهدون.
فلنوسع دائرة الحوار حول أزمة التعليم فى مصر
هذه بعض اجتهادات حول كيفية مواجهة أزمة التعليم فى مصر. طبعا لم يتسع هذا المقال لطرح كل جوانب هذه المواجهة وخصوصا ما يتعلق منها بمضمون العملية التعليمية وسبل انتشارها ولا الإطار المحيط بها فى المدرسة والمجتمع. هذا حديث طويل وهناك بكل تأكيد من هم أكثر علما به، وأتمنى ليس فقط أن أسمع اجتهاداتهم وهى عديدة، ولكن أن يكون لها، ولهذه السطور، صدى لمن بيدهم الأمر.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة