يأتى رمضان كل عام بزياراته العائلية المكثفة وولائمه الممتدة، يأتى أيضا بأعداد متزايدة من البرامج والمسلسلات التلفزيونية. هذا العام تلقيت عددا كبيرا من الدعوات حضرت أغلبها.. لفت نظرى تقليد واحد متكرر، يلتقى الناس على موائد الإفطار، يتعازمون ويثرثرون قليلا ثم يتركون المائدة لتبدأ وصلة طويلة من التَسَمُّر أمام شاشة التلفزيون. ينتهى مسلسل فيبدأ آخر، ثم ثالث ورابع وعاشر.
تتقافز القنوات ما بين أرضية وفضائية حتى ساعات متأخرة من الليل وربما حتى موعد السحور. هل أكون مبالغة حين أقول إن من يملك ترف حيازة أكثر من تلفزيون ينتقل من غرفة لأخرى لمتابعة عدة عروض فى نفس الوقت؟.. الصوت فى الأغلب عالٍ والضيف والمُضيف كلاهما يجلس كأنما هو مشدود بحبال غير مرئية إلى الشاشة والحوار المشترك غائب.. لا أحد يفكر فى إغلاق الجهاز ولو لبرهة قصيرة، لا أحد يرغب فى إراحة أذنيه أو عينيه للحظات. ماذا يفعل الصغار فى مثل هذه الأحوال؟ الحقيقة أن العدوى تنتقل إليهم تلقائيا. فى أغلب زياراتى إلى الأقارب والأصدقاء رأيت الأطفال يأخذون الطعام بجوار التلفزيون، يتناولونه محدقين فى الكرتون والمسلسلات الكوميدية.
حين ينضم الكبار إليهم يهربون إلى ألعابهم الخاصة. تستمر أعراض العدوى واضحة: الطفل يترك جلسته أمام التلفزيون لجلسة أخرى لا تختلف كثيرا. ينتقل إلى الألعاب الإلكترونية بأنواعها: الكومبيوتر والبلاى ستيشن والـP.S.P، يتسمر أمامها لساعات تمتد دون حدود. ألحظ إصابة الجميع بحالة من الاستسلام القهرى للشاشات الملونة.
فيما مضى كان الطفل يميل إلى الألعاب المليئة بالحركة، لكنه الآن لا يُبدى حماسا كبيرا تجاهها. الأولوية صارت للألعاب الإلكترونية. فى سبيل ممارستها يتم تناول الطعام والانتهاء من الواجبات الدراسية ومن كل المنغصات الأخرى. يحرض هذا التغيير السلوكى على التساؤل: لماذا حلت الألعاب الإلكترونية التى لا تحفز على الكثير من الإبداع، محل الألعاب القديمة؟ لماذا طغت رغم أنها تحول الطفل إلى كائن نمطى؟ هل هو التقدم التكنولوجى الكاسح الذى يضيف إليها كل يوم الجديد بحيث تجذب الطفل وتستولى عليه تماما، تطور طبيعى تحتمه مفردات الحياة العصرية؟ الحقيقة أن هناك عددا من الأسباب، لكن هذا التطور فى نهاية الأمر وبغض النظر عن تقنيته العالية المبهرة يمثل نوعا من التهديد.
فى حين تتميز الألعاب التى يخترعها الطفل بقابلية التطوير والتَشَكُّل تبعا للظروف وللبيئة المحيطة به، فإن الألعاب الإلكترونية تقيد حركته وتحد من نشاطه وتقضى على رغبته فى الاستكشاف (الحقيقى وليس الافتراضى). ربما تنمى سرعة رد الفعل لديه وتزيد بعض ملكاته مثل القدرة على التركيز الشديد، لكنها أيضا تستهلك طاقته الذهنية وتفصله عن التفاعل مع العالم الواقعى وتحرمه من استخدام جميع حواسه ومواهبة ومن متعة اختبار ما يحيط به من أشياء. يصبح الطفل بفضلها منهكا دون أن يمارس مجهودا حقيقيا، يصبح أيضا عاجزا عن التفكير والإبداع. تنحصر متعته فى الشاشة الضيقة ويغفل بها عن العالم الواسع.
فى الأسابيع الماضية صادفت عددا من صغار العائلة يصطحب كل منهم لعبته الإلكترونية معه أينما ذهب ويستعيض بها عن وجود الآخرين. لاحظت أن الأمر يتكرر حتى فى وجود أقران وأصحاب، يتقابلون معًا فيصبح مجال اللعب والتنافس الوحيد بينهم لعبة إلكترونية. ينعزل كل منهم عن الآخر وتتبادل أصابعهم الضغط على الأزرار، تحملق عيونهم فى الأشكال والأضواء المتحركة، وتتفجر سعادتهم بتحقيق الفوز غير الملموس.
انتشار الألعاب الإلكترونية كبديل لأى نشاط آخر ليس وليدا للتطور التكنولوجى فقط، بل للظروف الاجتماعية أيضا. أخبرنى عدد من الآباء والأمهات بأن تلك الألعاب هى الحل السحرى للخلاص من ضوضاء ومتطلبات الطفل اللا نهائية، طريقة مُثلى لإلهائه وحرمانه ــ دون مضايقته ــ من حقه فى المشاغبة وإحداث الفوضى، وسيلة ناجحة تبقيه بغرفته صامتا دون تذمر فى ظل انشغال الأم والأب.
الميل للاستغراق داخل عالم افتراضى للعبة إلكترونية ذات ثمن باهظ لا يقتصر على أطفال الطبقات العليا أو المتوسطة، فالصغار من مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية يتفاعلون بنفس الطريقة. من لا يملك شراء الأجهزة والبرامج يستطيع أن يذهب إلى الأماكن التى تؤجرها. أطفال كثيرون ينفقون مصروفهم كاملا عليها، أحيانا بدلا من الطعام.
الحياة السريعة الصعبة تفرض إيقاعها على الجميع، ووسط الصخب العاجز عن إنتاج قيمة حقيقية، تضيع القدرة على التواصل بين البشر كبارا أو صغارًا, أدركت منذ زمن أن شهر رمضان يُظهِر قدرتنا على عدم إنجاز العمل وعلى ابتلاع كميات الطعام الهائلة وعلى الشجار بدعوى انفلات أعصاب الصائمين، وأضفت إلى اكتشافاتى هذا العام أنه يفضح قدرتنا المتنامية على قطع خيوط التواصل الإنسانى، وعلى الاستغراق الكامل فى لا شىء، واكتشفت كذلك أننا قد صَدَّرنا قدراتنا تلك إلى الصغار فصاروا بدورهم يعيشون داخل أنفسهم ويتواصلون مع الآلات بدلا من البشر. لا ذنب لرمضان ولا لغيره من الشهور، إنه الانهاك والترهل العقلى والنفسى الذى نعانيه.