موسم الحج واقتصاديات الدين - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:37 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موسم الحج واقتصاديات الدين

نشر فى : الإثنين 4 سبتمبر 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 4 سبتمبر 2017 - 9:55 م
تعبير جديد لا يألفه الكثيرون ذلك الذى يربط الدين بالاقتصاد، بل ويجعل لرابطهما فرعا من فروع العلم الحديث نسبيا. «اقتصاديات الدين» Economics of Religion صار لها تصنيف خاص لدى جريدة أدبيات الاقتصاد Journal of Economic Literature والتى صارت حروفها الأولى تحمل التصنيف الأشهر للأبحاث والدراسات الاقتصادية JEL. 
الدراسات الاقتصادية للدين يمكن أن تأخذ أشكالا ثلاثة: يمكنها أولا أن تعكس قدرة الأدوات الاقتصادية والإحصائية على تقدير وقياس دور الدين فى المجتمع. كذلك يمكن لهذا الفرع من الدراسات أن يلقى الضوء على اقتصاديات السلوك غير السوقى، الذى يمكن من خلاله للعادات والقيم والأعراف ورأس المال الاجتماعى ورأس المال الروحى التأثير على سلوك الأفراد وقراراتهم الاقتصادية من خلال التأثير فى معتقداتهم وأفعالهم. وثالثا من شأن هذا الفرع من دراسات الاقتصاد أن يظهر كيفية تأثير الثقافة بمفهومها الأوسع، سواء من خلال العقائد الدينية أو من خلال أى نوع من العقائد الثقافية، على النظم الاقتصادية. 
مع نشأة علم الاقتصاد برز الاهتمام بالدين فى أعمال مؤسسة «آدم سميث». أشار «سميث» فى كتابه «ثروة الأمم» إلى دور الكنيسة، كما أشار إلى مفهوم المنافسة فى الأديان لدى تأصيله لنظرية «المشاعر الأخلاقية». «سميث» ناقش ثلاثة مفاهيم مازالت موضع جدل بين اقتصاديى الأديان المحدثين: دور المنافسة، والمؤسسات الدينية، والتعددية الدينية. 

***

المنافسة كسلوك يقوم على خفض الأسعار بغرض الحصول على نصيب أكبر من السوق كانت مفهوما معتادا على أيام «سميث»، لكن الجديد فى بحثه هو محاولة فهم تداعيات سلوك المنافسة على المجتمع. وبالفعل كانت لتلك المحاولات أهمية لاحقة فى فهم صراعات عقائدية معاصرة، والتوازن القائم بين مؤسسات خدمات عامة وخدمات تطوعية مجانية تقدمها مؤسسات دينية، منها خدمات تعليم أولى، ورعاية صحية ودعم للفقراء.. الاقتصادى «ميلتون فريدمان» رأى أن التطور الكبير الذى شهده علم الاقتصاد تأثر بشدة بالتغييرات التى أصابت المعتقدات الدينية على عهد «آدم سميث». 
المسوح الحديثة التى أجريت لاكتشاف حدود المد العقائدى عالميا وأثره على المجتمعات، أكدت أن الغالبية العظمى من سكان الأرض مازالوا يعتنقون عقيدة بدرجات متفاوتة. ثمة دراسة سكانية شاملة أجريت على أكثر من 230 دولة وإقليم، قدرت اعتناق ما يزيد على 5.8 مليار فرد (بين بالغين وأطفال) لدين من الأديان بما مثل نحو 84% من حجم سكان الكوكب عام 2010. الدراسة قامت بتحليل 2500 تعداد سكانى ومسوح وسجلات سكانية، وأظهرت أن نحو 32% من سكان العالم يتبعون الديانة المسيحية، وأن 23% يتبعون الإسلام، وأن نسبة الهندوس تبلغ 15% ونسبة البوذيين 7% ولا يزيد تعداد اليهود عن 0,2% بينما بلغت نسبة اللادينيين (الذين لا يؤمنون بديانة معروفة ولكن ربما كان لبعضهم معتقدات متنوعة) نحو 16% من حجم سكان العالم بما يجعلهم فى المرتبة الثالثة بعد المسيحيين والمسلمين. وتؤكد دراسات حديثة أن مد الإلحاد قد بدأ يعرف طريقه إلى دول يمثل الدين فيها ركيزة مجتمعية مهمة (مثل بعض الدول العربية). وهو ما يتفق مع دراسة أخرى أجريت فى الولايات المتحدة عام 2013 وأظهرت أن نحو 20% من المجتمع الأمريكى قد أصبح لا ينتمى إلى ديانة محددة «nones» فى اتجاه صعودى لتلك الظاهرة منذ عام 1990.

***

العلمانية، والتعددية، والتنظيم، والنمو الاقتصادى، كلها مفاهيم ومتغيرات استحوذت على اهتمام أدبيات «اقتصاديات الدين» والتى عادة ما بحثت فى معاملات الارتباط بين انتشار الدين وتأثيره فى المجتمعات من ناحية، وبين مستوى ثرائها وتقدمها ونصيب الفرد فيها من الناتج المحلى الإجمالى من ناحية أخرى. فرضية العلمانية فى هذا السياق تقوم على أساس ان التنمية الاقتصادية بما يصاحبها من تحسن مستويات التعليم والتحضر تؤدى إلى خفض الوازع الدينى وتأثيره فى المجتمع، ومن ثم خفض تأثير المؤسسات الدينية فى عملية التنمية. هنا تبدو السببية فى اتجاه واحد حيث كلما تحسنت أوضاع الاقتصاد تراجع دور الدين. وربما يرى البعض السببية من اتجاه آخر فكلما زاد أثر الدين فى المجتمع زاد تراجعه الاقتصادى، وهى نظرة انتقائية غير منصفة. بينما النظرة الأكثر إنصافا إلى الدين كعامل مؤثر فى التنمية ترى الإلحاد متغيرا مستقلا يؤدى إلى التنمية ويحقق الرفاهة، وبالتالى فليس الدين كمتغير مستقل مسئولا عن تخلف الأمم الأكثر تدينا. لكن هذا التفسير الأخير الذى يرى الإلحاد عاملا مستقلا مسئولا عن نهضة بعض الدول يهمل ظاهرة «الكسل الشعبى» التى سادت الاتحاد السوفيتى فى السنوات السابقة على انهياره، والتى أعزته بعض الدراسات المتخصصة إلى انتشار الإلحاد، وضياع الهدف الأسمى للحياة، خاصة فى ظل تردى الأحوال الاقتصادية. كما أن ارتباط التحسن فى المستوى الاقتصادى بإحياء الوازع الدينى بين الطبقات المتوسطة فى بعض المجتمعات الإسلامية ومنها مصر، رصدته دراسات مختلفة، مشيرة إلى نتائج متعارضة مع ما تم رصده بالمجتمعات المتقدمة فى الغرب. 
الدين يمكن أن يكون عاملا معززا ومحفزا للتنمية، ويمكن أن يكون مثبطا لها إذا ما فسدت العقيدة أو استخدمت لإلهاء الشعوب عن المشاركة السياسية وتحقيق الرفاهة فى الدنيا، وإذا اشتعل التطرف لتأجيج صراعات اثنية وطائفية الغرض منها إشعال حروب متوسطة الحجم، لتصريف مخزون السلاح الذى تنتجه القوى الكبرى المؤثرة فى حركة الاقتصاد فى العالم. وبغض النظر عن حقيقة البواعث الدينية المؤثرة على السلوك الاقتصادى للأفراد، وما إذا كانت تعكس تدينا فعليا أو بحثا عن تقدير مجتمعى وسمعة (كأن يقال للرجل يا حاج) فإن الدين يلعب فى هذا السياق دورا مهما مؤثرا على القرارات الاقتصادية للأفراد والمؤسسات أيضا، خاصة إذا مثلت الأموال المنفقة فى مجالات متصلة بشعائر دينية وامتثال لتعاليم وتكليفات لاهوتية نسبة كبيرة من ميزانية الفرد والمؤسسة (كثير من الشركات العاملة فى مصر ــ مثلا ــ تعد ميزة الحج والعمرة على نفقة الشركة نوعا من مزايا العاملين، وجانبا من حزمة الرواتب والحوافز المقدمة للموظف عند التعاقد معه). 
الأموال الخيرية ــ التى طالبنا بحوكمتها فى مقال سابق ــ والتى باتت تغطى جانبا مهما من احتياجات المجتمع المصرى (بداية من الدعوة إلى كفالة اليتامى والفقراء إلى الدعوة لكفالة القرى!) صارت تلعب دورا تنمويا محوريا فى كثير من المجتمعات، وتحل محل الحكومة فيها، وهى لا تنفق تحت مظلة «المسئولية المجتمعية» كما هى الحال فى دول أخرى، لكنها تأتى فى ظل إنفاق يحرض عليه الدين، وفى مصارف بعينها حددتها الشرائع. كذلك تجدر الإشارة إلى أن الدور التنموى للأوقاف الإسلامية فى توفير السلع والخدمات العامة، والذى كان حتى وقت قريب المصدر الوحيد لتلك الخدمات، يميز المجتمعات الإسلامية عما سواها، خاصة مع حمل تلك الأوقاف لأسماء أصحابها، فى إشارة إلى أنه من المحتمل أن تكون الأموال قد وقفت بغرض اكتساب نوع من الوجاهة والتقدير المجتمعى.

***

الحج من أهم الشعائر التى يمكن دراستها فى إطار اقتصاديات الدين، وإذا كانت إيرادات موسم الحج لهذا العام يتوقع أن تتراوح بين 5.3 و 6.1 مليار دولار، فإن هذه الأموال تشكل المصدر الثانى للدخل القومى للسعودية بعد النفط والغاز. هنا يكون لقطاع السياحة الدينية دور قائد فى النشاط الاقتصادى السعودى، من شأنه أن يحد مستقبلا من عجز الموازنة المتزايد (بلغت الفجوة البترولية فى موازنة السعودية لعام 2016 ما قيمته 87 مليار دولار). هذا القطاع يوظف نحو 8% من العمالة السعودية بما يصل إلى 883 ألف عامل متوقع أن يصلوا إلى 1.3 مليون عام 2030. وفقا لأحد الاقتصاديين السعوديين فإن زهاء 40% من تلك الإيرادات تذهب إلى الإسكان و15% للهدايا و10% للطعام و35% تحصلها خدمات أخرى. 

لكن الدول المصدرة للحجيج تختل موازين خدماتها مع السعودية نسبيا فى هذا الموسم بدرجات متفاوتة، وتتعرض عملاتها الوطنية لضغط موسمى حاد، وهنا يمكن النظر إلى التداعيات الاقتصادية لقرارات متصلة بالمعتقد الدينى بمعزل عن المردود الروحى لتلك القرارات، خاصة إذا أمكن للمسلمين الوصول إلى صيغة عادلة لتوزيع منافع شعيرة الحج وفقا للأوزان النسبية للدول المصدرة للحجاج والمعتمرين. وقد يذهب البعض إلى مناقشة أولويات الإنفاق من منظور دينى بحت له أثره على الاقتصاد بالطبع، وهو منظور يتخذ من قصة حج «عبدالله بن المبارك» دليلا على تفضيل إعالة المعدمين والمساكين على تكرار الحج. وبغض النظر عن دقة تلك الرواية ففى فقه الأولويات ما يؤيد هذا المذهب خاصة مع بلوغ نسبة السكان تحت خط الفقر فى مصر ما يزيد على 30% ومع ذلك تظل مصر أكبر الدول تصديرا للحجاج والمعتمرين كل عام، وبعد أن بلغت تكاليف الحج ــ بكل درجاته ــ قيما كبيرة للغاية تنطوى على مكاسب تجارية، وتضع قيودا اقتصادية تفوق كثيرا شرط الاستطاعة البدنية الذى شرعه الله.

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات