يمكن أن تعتبر هذا المقال دعوة لحضور عرض مسرحى متميز بحديقة مركز الهناجر عنوانه (مسافر ليل) عن نص لصلاح عبدالصبور ومعالجة إخراجية لمحمود فؤاد صدقى وأنا أعتبره مناسبة لتذكر أستاذة جامعية مبدعة تولت إدارة الهناجر لسنوات وجعلت منه منصة لإطلاق المواهب ورعايتها.
هذه الأستاذة هى الدكتور هدى وصفى التى استعدت دورها فى حياتنا الثقافية والفنية وأنا فى ساحة الأوبرا منتشيا بما رأيت وأدركت وأنا أصافح الشاب مخرج العرض أنه مر ولا شك من هنا، وشاهد عشرات العروض التى كانت عنوانا لازدهار المسرح المصرى ودليلا على شجاعة مبدعيه وإدارته فى الاقتراب من كل ما هو شائك أو يقع فى دائرة المسكوت عنه.
ولعله المسرح الوحيد فى حقبة التسعينيات وما بعدها الذى أغضب جهات كثيرة لأن عروضه تجاوزت بجمالية مدهشة الكثير من الخطوط الحمراء وكشفت الكثير من أساليب اللعب فى الدماغ.
وتذكرت أننى وجيلى كله من سعداء الحظ الذين ارتبطوا بهذا المكان الذى تغيرت معالمه المعمارية الآن، بتصميم اغتصب ماضيه الجميل وأخذ الكثير من روحه المتوهجة فلفترات طويلة داخل الموسم المسرحى يكون الظلام سيد الموقف فى قاعاته لأسباب ينبغى إزالتها ليعود كما كان فى عهد هدى وصفى التى لم تترك شيئا لم تفعله فقد استضافت ندوات ومعارض وعروض جعلت منه نقطة ضوء أو فضاء للابتكار.
وهدى وصفى سيدة قد تختلف معها لكن لا تختلف عليها، فقد ظلت دائما فى حالة عمل وإنتاج وأنعم الله عليها بنعمة الكشف عن المواهب والقدرة على إدارتها، وواجهت فى مسيرتها أكثر من حصار متعمد لتجاربها لكنها صمدت وأكملت مهامها بمزيد من الانفتاح على أجيال وتجارب.
ولعلها الوحيدة التى تأملت جيدا تجارب المسرح المصرى فى الستينيات وطورتها واستقدمت خبرات وأسماء بوزن بيتر بروك وروجيه عساف وعونى كرومى ويوسف العانى، وكرم مطاوع ونور الشريف وآخرين طوروا مع شباب الفنانين أساليب للعمل المسرحى اتسمت بالتجريب الخلاق ونجحت خلال إدارتها للمسرح القومى أن تسترد ماضيه الحافل بأعمال مسرحية من الوزن الثقيل.
وأهم ما فى تجربة هدى وصفى اعتزازها بذاتها ومحاولتها فى العمل باستقلالية ونزاهة مالية كانت تدفعها دائما للإنفاق المالى من جيبها الخاص لتسهيل الكثير من الأمور تفاديا لكوارث البيروقراطية المصرية التى لم تغفر لها النجاح الكبير ولم تفهم الشفرة التى مكنتها من العمل.
ومن رأى (الست هدى) وهى تعمل ادرك ولا شك روحها القلقة وحماسها الذى لا يكل ولا يمل واستوعب كذلك أخطاءها التى لم تكن خطايا.
والآن وقد ذهب من ذهب وانفضت بعض معالم السيرك الذى كان، يصعب النظر لحالة الوهج التى تعيشها عروض المسرح المصرى هذه الايام بمعزل عن الدور الذى لعبه الهناجر تحت ادارتها الخلاقة، ليس فقط لانه تبنى الشباب المنحاز للتجريب وإنما ايضا لانه أعطى رئة جديدة سمحت للمسرح المستقل بالتنفس وخلقت هوامش للتفاوض أو المناورة أفرزت الكثير من الوجوه النضرة، التى صار بعضها اليوم فى الواجهة.
وفى مواسم الحصاد تستحق هدى وصفى أكثر من كلمات الشكر لأنها علمتنا ذات يوم الحق فى الحلم.