معظم الناس لا يعرفون شيئا عن اقتصاد المملكة العربية السعودية، باستثناء ما يتعلق بقدراتها النفطية، وأخيرا ما يتصل باقتصاديات أنديتها الكروية وحفلاتها الغنائية الكبيرة. لكن الاقتصاد السعودى مر خلال السنوات الأخيرة بتحولات مهمة، كما أنه أصبح أكثر تنوعا وأقل تمحورا حول النفط. الاهتمام بالاقتصاد السعودى يأتى فى سياق دعوة المملكة السعودية للانضمام إلى تجمع بريكس، جنبا إلى جنب مع كل من مصر والإمارات وإيران والأرجنتين وإثيوبيا.
• • •
السعودية هى من مجموعة العشرين G20، وقد بلغت معدلات النمو الحقيقى فى الناتج المحلى السعودى خلال عامى 2021 و2022 ما نسبته 3,92% و8,7% على الترتيب وفقا لبيانات البنك المركزى السعودى، وذلك بعد تحقيق معدل نمو سالب بلغ ــ4,34% عام 2020 ومعدل نمو هامشى بلغ 0,18% عام 2019 على خلفية تداعيات جائحة كوفيدــ19.
وإذا كان الناتج المحلى الإجمالى قد بلغ ما قيمته 4,16 تريليون ريال سعودى عام 2022 (ما يزيد على تريليون دولار أمريكى) فإن التوقعات تشير إلى بلوغ الناتج ما قيمته 5,66 تريليون ريال سعودى عام 2028 بنسبة زيادة تبلغ 36%. وقد بنيت تلك التنبؤات على تحليل المشهد العالمى بكافة تقلباته، مع الأخذ فى الاعتبار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وسياسات الحد من الانبعاثات الكربونية، والتحول الأخضر فى كثير من دول العالم، بما يؤشر إلى استمرار الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية لسنوات قادمة، خاصة فى الدول النامية ذات الانبعاثات المنخفضة نسبيا، أو حتى الدول المتقدمة التى تعرضت لصدمة عنيفة جراء اهتزاز إمدادات الغاز الروسى لأوروبا، والتى كانت تشكل ما يقرب من 40% من احتياجات القارة عشية الحرب المذكورة.
تحتاج السعودية إلى نمو اقتصادى مستدام يتراوح بين 5% و6%، وهذه النسبة تستلزم استثمارات كبيرة فى القطاعات المولدة للدخل القومى خاصة القطاعات التى تعزز من التشابكات الصناعية فى الداخل السعودى من خلال اتصالها بقطاعات النقل واللوجيستيات والتخزين والصناعات التحويلية والتجارة والخدمات. وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق الاستثمارى العام فى دولة كبرى مثل المملكة العربية السعودية، هو ضرورة لازمة لحفز النشاط الاقتصادى بصفة عامة، وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية من القطاع الخاص والأهلى.
• • •
أما عن معدلات التضخم، فقد شهدت انفلاتا ملحوظا بين الأعوام 2006 و2011 متأثرة بالأزمة المالية العالمية، وإرهاصات ثورات الربيع العربى فى المنطقة، والتى انعكست بالتأكيد على حركة التجارة وتدفقات رءوس الأموال، ومن ثم على المستوى العام للأسعار للمنتجين أو للمستهلكين. من الواضح أن قدرة المملكة على استهداف معدلات تدور حول 2% تزيد على قدرة الولايات المتحدة نفسها على تحقيق ذلك المستهدف، علما بأن سياسة الربط الجامد لسعر الصرف بالدولار التى تنتهجها دول مجلس التعاون الخليجى تجعل اقتصادات الدول وسياساتها النقدية شديدة الارتباط بسياسات الولايات المتحدة النقدية؛ وفى حين تجاوزت معدلات التضخم فى الولايات المتحدة حاجز 9% خلال العام الماضى، فإن المملكة قد احتفظت (مدعومة بتعافى النمو الاقتصادى وارتفاع أسعار النفط) بمعدلات تضخم سنوية تتراوح بين 2,5% و2,8% بين عامى 2022 والمتوقع عام 2023.
وإذ تعد معدلات التضخم الضريبى الخفية التى يدفعها الفقراء والأغنياء على السواء، فإن الحكومة السعودية قد بدت حريصة على عدم انفلات التضخم، حتى فى ظل أكثر الفترات تأزما على خلفية الأحداث العالمية خلال السنوات الثلاث الماضية. وإذ تشير التوقعات إلى المحافظة على معدلات تضخم مستهدف يدور حول 2% فقط بين عامى 2025 و2028 فإن هذا يدعم بقوة قدرة المملكة على المحافظة على معدلات فائدة منخفضة نسبيا (سيما مع بدء انتهاء موجة التشديد النقدى فى الولايات المتحدة). وهذا من شأنه دعم الاستثمار فى مختلف المجالات، بما يرفد النمو الاقتصادى برافد هام، ويعزز من القدرات التمويلية لمتطلبات الدفاع دون تأثير سلبى على الظروف المعيشية للمواطنين وأولويات الإنفاق العام.
يؤثر التضخم على مختلف التقديرات (الحقيقية) للمؤشرات الاقتصادية. بمعنى أن القيمة الاسمية لأى متغير وليكن حجم الناتج المحلى الإجمالى (بأسعار السوق) تظل مرهونة بتحييد أثر التضخم فى الأسعار، حتى يتم تقدير معدل النمو الحقيقى فى الناتج وقيمة هذا الناتج بالأسعار الثابتة. كذلك يؤدى التضخم إلى تآكل المدخرات العامة والخاصة، مع التأكيد على أن الادخار المحلى يجب أن يظل المصدر الأول لتمويل الاستثمار، حتى لا تخضع المملكة إلى الضغوط الخارجية من خلال الإفراط فى اعتمادها على الاستثمار الأجنبى لسد أى فجوة فى الادخار المحلى. وبالفعل تزيد معدلات الادخار المحلى على 30% من الناتج المحلى الإجمالى، بما يزيد على المتوسط العام لدول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD ويتخطى بكثير معدل الادخار المحلى فى مصر والذى يتراوح بين 6% و8% فقط!.
• • •
بالنسبة لأسعار الفائدة، فقد تمكنت المملكة من المحافظة على مستويات منخفضة نسبيا من أسعار الفائدة منذ العام 2004 وحتى اليوم. كما يلاحظ أن متوسط أسعار الفائدة خلال تلك الفترة لم يتجاوز 3% فقط. وإذ بلغ معدل فائدة الإنتربنك 6% فى أغسطس الماضى، فإن هذا الارتفاع الكبير قد ارتبط بظرف استثنائى، اضطرت خلاله البنوك المركزية بمجلس التعاون الخليجى إلى مواكبة الارتفاعات المتتالية فى أسعار الفائدة من قبل الفيدرالى الأمريكى منذ مارس 2022 وحتى اليوم.
سياسة الربط الجامد لسعر صرف الدولار مقابل الريال السعودى التى تنتهجها المملكة والتى تحقق استقرارا جيدا فى أسعار الصرف على المدى الطويل، هى التى تسببت فى الرفع المتتالى لأسعار الفائدة على الريال السعودى لمواكبة الدولار الأقوى نسبيا. ولما كانت تعاملات النفط تتم بالدولار الأمريكى، ولما كان النفط هو المصدر الأهم للدخل فى السعودية، فمن المنطقى أن تستمر سياسة سعر الصرف كما هى. بل إن هناك دعوات صاخبة بالداخل الأمريكى لتغيير مستهدف التضخم 2% ليكون أكثر واقعية فى الأعوام القادمة، التى شهدت ما يعرف بانتهاء عصر الأموال الرخيصة والفائدة الصفرية. علما بأن معدلات التضخم فى المملكة تسمح لها بفرض أسعار فائدة أكثر انخفاضا، لأن الفائدة الحقيقية (بعد استبعاد التضخم) فى المملكة تظل موجبة وبنسبة كبيرة، ومن أعلى مستويات الفائدة (الحقيقية) فى العالم اليوم. إلا أن تلك الخطوة تقتضى التحول نسبيا بعيدا عن سياسة الربط الجامد بالدولار إلى نوع من الربط المرن مستقبلا.
ثبات سعر صرف الريال السعودى مقابل الدولار، واستقراره أمام عملات التداول الرئيسة، هو أمر غاية فى الأهمية لاستقرار خطط الاستثمار والتنمية، دون إلقاء أعباء التحوط ضد تقلبات سعر الصرف على كاهل المستثمر، أو إحداث أى اضطراب فى الجهاز المصرفى بفعل ضبابية أسعار الصرف.
المستثمر الذى يستهدف تحقيق أرباح كبيرة تبلغ 20% مثلا خلال العام، قد يفقد بفعل تقلبات أسعار الصرف ما يأكل أرباحه بالكامل فى أقل من عام، عندما يعمد إلى تحويل أرباحه من العملة الوطنية إلى عملته الأصلية إن كان من دولة أجنبية. ولذا فإن استقرار أسعار الصرف قد ساهم فى استقرار معدلات التضخم حتى مع زيادة الاعتماد على الاستيراد فى تدبير الكثير من احتياجات الاستهلاك المحلى والإنتاج الزراعى والصناعى على السواء.
• • •
نجحت المملكة فى خفض معدلات البطالة خلال الفترة التى تم تحليلها (منذ عام 2004 وحتى اليوم). وقد اتخذ منحنى معدلات البطالة اتجاها هابطا منذ عام 2004، حتى بلغت ما يقرب من 5,1% فى نهاية الربع الأول من 2023. وكان بالطبع العام 2020 هو الأسوأ على الإطلاق من حيث معدلات البطالة، حيث بلغت ما نسبته 7,45% على خلفية إغلاقات الجائحة. وقد اقترن تراجع معدلات البطالة بخطط التطوير والتحديث فى إطار رؤية المملكة 2030 والتى اقترنت بأهداف التنمية المستدامة التى أطلقها البنك الدولى عام 2015.
وقد تمكنت السعودية من تحقيق فائض فى الموازنة العامة للدولة فى معظم السنوات العشر الماضية، بما عزز من قدرتها على تبنى سياسات توسعية تشحذ الإنتاج، ومن ثم تعزز من النمو فى الناتج المحلى الإجمالى. وخلال الفترة المذكورة فإن متوسط الفائض المحقق قد بلغ نحو 31,5 مليار ريال سعودى، وقد بلغت ذروة الفائض عام 2008 (عشية تفجر الأزمة العالمية) بقيمة 581 مليار ريال، كما بلغ أكبر عجز فى الموازنة ما قيمته سالب 389 عام 2015. وظل العجز يتحقق ولكنه يتناقص حتى العام 2021. وتعتبر رؤية المملكة 2030 حاكمة لإطار هيكل الإنفاق العام خلال السنوات الممتدة منذ إطلاق البنك الدولى لأهداف التنمية المستدامة الشهيرة فى عام 2015. تمويل العجز يضغط على مستويات الدين العام، والذى كلما ارتفع فيه المكون الخارجى كلما كان هناك ضغط على العملة الصعبة، وكلما ارتفعت التكلفة التى تتحملها الأجيال القادمة نظير تحقيق التنمية والرفاهية للأجيال الحالية.
• • •
المتغيرات السابقة يمكن أن تعطى لمحة عن الاقتصاد السعودى خلال العقد الماضى، ولكن هناك الكثير من المؤشرات الأخرى التى تكشف عن تطور حقيقى فى الداخل السعودى، من شأنه أن يحقق مزيدا من القفزات خلال الأعوام القليلة القادمة. من ذلك الانفتاح الثقافى والتطور الإعلامى، ومن ذلك مشروع «نيوم» الذى يمكن أن يتحول إلى واحد من المشروعات عبر ــ القومية القاطرة، التى تقود التحول الإنتاجى فى المنطقة كلها.
وفى مقالات قادمة ربما نلقى الضوء على بعض الاقتصادات الأخرى المنضمة إلى تجمع «بريكس».