يشكو الجمهور دائما من الإعلام! ويتهم الدولة ورجال الأعمال والإعلاميين بتعمد إفساده! ويكتفى أصحاب هذه الشكوى المزمنة بالتعليقات القاسية، والجارحة أحيانا، على مواقع التواصل الاجتماعى، أو فى أسوأ الأحوال، بحصار مدينة الإنتاج، وترويع موظفيها.. لكن لا هذا ولا ذاك يحقق شيئا من مطالب هذا الجمهور الغاضب، فما الذى ينبغى عليه أن يفعله إذن كى يستطيع التأثير فى المشهد الإعلامى؟
•••
هناك عدة تجارب فى العالم يمكن الاسترشاد بها، فى السبعينيات على سبيل المثال تشكلت جماعات ضغط فى 30 ولاية أمريكية، دورها كان فقط مراقبة وإصلاح الإعلام، تمكنت هذه الجماعات فى عام 1974 من إرسال ما يقرب من 300 عريضة احتجاج إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية، تطالبها بعدم تجديد تراخيص بعض القنوات التى ضاق بها الجمهور، وهو ما لم تستطع اللجنة تجاهله، وأسفر بالفعل عن اختفاء العديد من القنوات، غيّر الجمهور ملامح المشهد الإعلامى بجرة قلم!
لم يسكت أباطرة الإعلام! نجحوا فى أوائل الثمانينيات فى إقناع الكونجرس بإطالة أمد التراخيص لتحرير القنوات من قبضة لجنة الاتصالات الفيدرالية «التى تنصت أكثر من اللازم للجمهور»! يئست بعض جماعات الضغط فانسحبت من اللعبة، لكن البعض الآخر كان صبورا، استمر فى نضاله من أجل توجيه مسار الإعلام عن طريق نقل شكاوى الجمهور للكونجرس وشركات البث، ومتابعة التحقيق فيها، وعلى رأس الجماعات الباقية فى الولايات المتحدة إلى يومنا هذا، ما يسمى بـ «مجلس الآباء التليفزيونى»، و«مشروع النفاذ لوسائل الإعلام»، كلاهما يتمتع بسلطة شعبية لا حدود لها.
استطاع أعضاء هذه الجماعات عام 2011 أن يوجهوا صفعة قوية لمذيع قناة «فوكس نيوز» المثير للجدل «جلين بيك»، حين وصف أوباما بأوصاف عنصرية٬ فماذا فعلوا؟ دعوا المعلنين إلى مقاطعة برنامجه الناجح، فاستجاب ٢٩٦ معلنا بالفعل٬ ومنعوا إعلاناتهم من الظهور فى البرنامج٬ بل وقاطع المعلنون برامج أخرى استضافت «جلين بيك». وأطلقت الشركات المتخصصة فى بحوث التسويق وقياس نسب المشاهدة على برنامج «جلين بيك» وصف «خالٍ من السعرات»! وفى النهاية أصدرت «فوكس نيوز» بيانا تخلت فيه عن «جلين بيك»٬ وأوقفت برنامجه.. وهكذا عاقب الجمهور مذيعا خرج عن أخلاقيات المهنة، دون حصار لمقر محطته، أو وضع اسمه على قائمة الاغتيالات!
لكن قصة إشراك الجمهور فى وضع سياسات الإعلام الأمريكى وتحديد ملامحه لم تبدأ فى السبعينيات، بل بدأت عام 1927، أى بعد سبع سنوات فقط من بث أول برنامج إذاعى فى الولايات المتحدة، بصوت المهندس الشهير فرانك كونراد، حينها أعطى قانون البث لما كان يطلق عليه وقتها «لجنة الراديو الفيدرالية» «حق عقد جلسات استماع، واستدعاء شهود، وإجراء تحقيقات، لتطوير فهمها لاحتياجات الجمهور، وللتأكد من أن المحطة الإذاعية التى ترغب فى تجديد أو تعديل ترخيصها تحظى برضاء المستمعين، وفقا للمادة 11 من هذا القانون.
لم تجمع جلسات الاستماع هذه أفرادا من الجمهور بمسئولى اللجنة فقط، بل جمعتهم بالمذيعين، والمخرجين، ومهندسى الإذاعة، ومشغلى أجهزة اللاسلكى الهواة والمخترعين، هذه هى التنشئة الإعلامية للجمهور التى انتبه لضرورتها المجتمع الأمريكى، وهو يعلم مدى التأثير الذى سيمارسه الإعلام على المجتمع خلال الأجيال التالية، فلا يجوز أن نترك للجمهور الحكم على الإعلامى، وهو لا يعلم طبيعة المخاطر والتحديات التى تحفل بها هذه المهنة، وهل بإمكان محكمة أن تصدر قرارها فى قضية دون أن تلم بكل أبعادها ومعلوماتها؟
•••
هناك مؤسسات إعلامية كانت أكثر جرأة، وسمحت لهذا القاضى (الجمهور) أن يستقر فى عقر دارها، هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» تفعل هذا، فلديها أربعة مجالس استشارية للجمهور، كل منها يخدم إقليما له سماته الثقافية والاجتماعية الخاصة: انجلترا، أيرلندا الشمالية، اسكتلندا، وويلز، تقول «بى بى سى» إن هذه المجالس المستقلة «تلعب دورا مهما فى إمدادها برؤى مستنيرة حول آراء واحتياجات ومصالح الجماهير، ومدى قدرة المؤسسة على خدمة هذه الجماهير وتحقيق أغراضها العامة». تفعل ذلك من خلال تقارير سنوية تقيّم أداء «بى بى سى»، وتساعد فى صنع القرارات المتعلقة بسياساتها أو خدماتها الجديدة، إلى جانب إرشاد صانعى القرار لأولويات الجمهور فى المجتمعات المحلية التى تمثلها.
•••
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع توجهات الجمهور الغاضب من وسائل الإعلام، علينا أن نوفر له القنوات الشرعية للتعبير عن رأيه فى المادة الإعلامية التى نقدمها أو فى طريقة تناولنا لها. نستطيع أن نفرّق المتظاهرين من أمام بوابات مدينة الإنتاج باستخدام خراطيم المياه وقنابل الغاز والرصاص المطاطى، وفى النهاية قد تلقى قوات الأمن القبض على بعضهم، وتحيلهم للتحقيق بتهمة إثارة الشغب! نستطيع أن نفعل ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثا لكن هذا الحل سيظل مؤقتا، ولن يقضى على الظاهرة وقد ينحرف سلوك هذه الفئة المتشددة من الجمهور فتلجأ إلى ممارسة العنف ضد الوجوه الإعلامية المناهضة لها. ويصبح الحل الأمنى بمثابة شرارة تضاعف الأزمة. يجب أن تكون الدولة أكثر ابتكارا فى احتواء الجمهور وتشعره بالشراكة فى توجيه الرسالة الإعلامية، فيتعامل مع المهنة من منطلق المسئولية وليس الرقابة والحصار.
عمليا، كيف نبنى هذا الجسر بيننا وبين الجمهور؟ أقترح أن ينص قانون المجلس الوطنى للإعلام، المزمع تشكيله قريبا، على اشتراط منح أو تجديد الترخيص للقنوات الفضائية، إذا توافرت لديها آلية واضحة ومقننة لاستقبال شكاوى وملاحظات الجمهور والتعامل معها. قد تتخذ هذه الآلية شكل المجالس الاستشارية على غرار تجربة «بى بى سى»، أو تخصيص أرقام ساخنة لتلقى الشكاوى، وتشكيل لجنة دائمة للتحقيق الفورى فيها، وإلزام هذه القنوات بإعلان نتائج هذه التحقيقات، وتطبيق العقوبات والتعويضات المناسبة إذا ثبت ارتكاب مخالفة، بدءا بالاعتذار المعلن، وانتهاء بفصل الموظف المتسبب فيها.
لا يمكن لوسيلة إعلامية أن تنجح دون الاستماع لصوت الجمهور، ولن يتأتى هذا دون اتخاذ قرارات وسن قوانين، يكفينا الحديث عن تطوير الإعلام وكأنه حلم بعيد المنال.. فلنبدأ.