يبدو أننا اعتدنا سماع الألفاظ البذيئة على شاشاتنا هذا ما لمسته حين بثت إحدى القنوات قبل أيام مداخلة هاتفية مع محامٍ مثير للجدل، تضمنت العديد من عبارات السب والقذف التى يعاقب عليها القانون، ولم أسمع تصريحا للسيدة وزيرة الإعلام يدين الواقعة أو قرارا من مدير المحطة بحظر الاستعانة بهذا الضيف مطلقا مرة أخرى أو محاسبة المذيع الذى عجز عن إسكاته أو إنهاء المكالمة قبل أن تصل لهذه الدرجة الهابطة من الحوار.
ويبدو أن تلويث أسماع المشاهدين صار جريمة على المشاع، نكتفى إزاءها بإدانة المجتمع الذى انحدرت أخلاقه أو المهنة التى تخلت عن رسالتها أو القنوات التى خسرت مصداقيتها، ونبقى رغم ذلك عاجزين عن تحديد المسئولية وأثر الجريمة ونوع العقاب. وفى خضم هذا السيل من السباب والاتهامات الجزافية والتضليل، لم يعد من السهل تمييز الصالح من الطالح، وصار الحديث عن أخلاقيات الإعلام ترفا وتلاشى صوت المنادين بها وحلّ اليأس فى نفوس المتلقين الذين لا حيلة لهم فى تغيير هذا الوضع البائس، ولم يبقَ أمامهم سوى كيل الشتائم والاتهامات لكل الوجوه الإعلامية إن لم يكن بسبب تجاوزاتها فبسبب صمتها عما أصاب المهنة!
لماذا يحمّلون المذيع دائما مسئولية آفات وأمراض الإعلام ككل؟ لأنه ببساطة «حارس البوابة الإعلامية»! صحيح أن دوره محدود من حيث الكم لكنه مطلق من حيث التأثير، ولا يدرك حدود الدور الذى يلعبه المذيع التليفزيونى أمام الكاميرا وخلفها سوى المتخصصين؛ أما بالنسبة لمشاهد التليفزيون العادى فإن المذيع هو كل شىء! هو الذى يقرر موضوع الحلقة، ويدعو لها من يشاء من شخصيات، ويستعين بما يشاء من فقرات، كما يوجه مسار النقاش، ويصيغ شخصية البرنامج، بل ويتحمل مسئولية إبداعاته وإخفاقاته الإخراجية! هذه المهام الافتراضية للمذيع قد تبرر إلى حد كبير تأثيره الخلاب من وجهة نظر المشاهد، ولو اطلع هذا المشاهد على حقيقة الأمر لربما منح وسام الشهرة والنجومية لأعضاء مغمورين فى فريق العمل، ولتغيرت المعادلة فى سوق الإعلام بالكامل!
لا مجال لتصحيح هذا الوضع! يحتاج الأمر لإلحاق كل أفراد الجمهور بمعاهد للتدريب الإذاعى والتليفزيونى أو استقبالهم بالاستوديوهات وغرف الإعداد ليلمسوا الحقيقة عن قرب! ولم يكن التسليم بالأمر الواقع خيارا مقبولا وطوعيا لدى «الجنود المجهولين» فى الكواليس، لكنهم تكيفوا معه، فى الوقت الذى كان هو الخيار المحبب لدى كثير من «نجوم الشاشة». بعضهم قدّر تبعاته ومسؤولياته، والبعض الآخر انتقص من أهميته واستخف به. من هنا ظهرت الحاجة للتوافق على ميثاق أخلاقى يسير على هديه المذيع التليفزيونى، ما دام ينوب عن محطته أمام الجمهور فى حمل هذه المسئولية الأدبية كاملة. ميثاق يكمل المواثيق الأخرى الشائعة، فيستعير منها ما يحتاجه المذيع قبل وقوفه أمام الكاميرا، ويضيف عليها ما يضمن خروج الرسالة الإعلامية على الهواء فى شكلها النهائى على نحو يحقق المقصد منها ويضبط القدر المقبول من الارتجال فيها دون الإخلال بسياسة القناة، أو تقييد شعبية مذيعيها.
●●●
إن ذروة التخلى عن أخلاقيات التقديم التليفزيونى تتجلى لحظة الارتجال، وما أكثره فى إعلامنا المصرى، على عكس القنوات الاحترافية فى الخارج. هنا تفقد إدارة المحطة سلطانها على الكلمة الملفوظة، وينفرد المذيع بصياغة الرسالة، ويصبح من شبه المستحيل أن ينجح دائما فى العثور على أكثر المفردات توازنا وأقلها انحيازا. قد يلعب التمكن اللغوى دورا فى هذا، إذ يستحضر المذيع ألفاظه بسهولة كما قد يساعده مقدار إيمانه بقيمة الموضوعية والحرص على الالتزام بها. لكنه فى كل الأحوال لن يصل مع الارتجال لمرتبة الكمال! إذن فما الحل إذا أراد المذيع أن يباهى بعفويته ليقترب أكثر من المشاهد؟ عليه أن يذكر نفسه فى كل لحظة أنه «ناقل» للحقيقة، وليس «ناقدا» لها، وأنه يلعب فقط دور «الراوى» فى نشرة الأخبار أو «الوسيط» فى المناظرات والبرامج الحوارية. بهذا فقط سيعزل «ذاته» عن النص المنطوق، وبالتالى يستطيع التحكم لحظيا فى صياغته.
ولكن ما حيلة المذيع إذا تطاول ضيف على الهواء؟ رد الفعل الفورى المطلوب هو زجره بمنتهى الحسم ودون تردد، والتأكيد على أن هذا السلوك مرفوض من القناة والبرنامج، فإذا لم يعتذر، أنهى المذيع الحوار واعتذر هو للمشاهدين. يجب ألا يستغرق هذا الموقف أكثر من لحظات، يستتبعها قرار معلن من إدارة القناة بإدراج اسم الضيف على قائمتها السوداء لحرمانه من الظهور مجددا على شاشتها. هكذا يحترم المذيع نفسه وتحافظ القناة على ثقة واحترام جمهورها ويتفرغ المشاهد لاستيعاب جوهر الرسالة الإعلامية دون صرف انتباهه إلى قضايا أخلاقية مبدئية كان ينبغى أن نكون قد تجاوزناها منذ عقود!
●●●
هذه مجرد أمثلة فقط على أخلاقيات التقديم التليفزيونى، التى يمثل غيابها فى رأيى المعضلة التى تعانى منها حاليا معظم قنواتنا الخاصة، لا سيما مع غياب تصنيف علمى دقيق وموضوعى لتلك القنوات حديثة العهد نسبيا بالسوق، واستسلام معظمها لمستوى غير مسبوق من تدنى الخطاب وغياب التدقيق وإطلاق التعميمات وقلة الخبرة، فضلا على تورط عدد كبير منها فى الصراع السياسى الذى يتسم هو الآخر بالهمجية والعشوائية والابتذال.
فى ظل حالة الاستقطاب الحاد والإرهاب الفكرى التى نعيشها فى هذه المرحلة، على المذيع التليفزيونى أن يدرك مسئولية الكلمة، وأن يتقاسم مع الدولة عبء الحفاظ على السلم الاجتماعى الذى هو مفتاح الأمن القومى، وأن يترفع عن الأجندات الشخصية، وأن يفصل بين الرأى والمعلومة، وأن يقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن يفتح نافذة أمام مختلف التيارات بلا تمييز كى تعبر عن نفسها. وعليه أن يحاسب نفسه ويراعى ضميره ويتحرى الدقة والحياد والأخلاق فى كل كلمة ترد فى برامجه ونشراته. وهذا هو الضمان الوحيد لاستمراره وتفوقه.
إعلامى وأكاديمى مصرى