"لا ينبغي أن تخدعنا كثرة القنوات الفضائية في مصر، فإعلامنا لا يزال يفتقر إلى التنوع الذي يضمن إشباع كافة احتياجات الجمهور وتوفير المعلومات من مصادر مختلفة، بما يساعد على التحقق من مصداقيتها ومن ثم تأهيل المجتمع لإدارة حوار رشيد بين فئاته السياسية والفكرية وبالتالي لممارسة ديمقراطية حقيقية وليست ظاهرية أو زائفة".
كل ما لدينا الآن إما قنوات حكومية خاسرة أو قنوات خاصة تهدف للربح دون ضوابط أخلاقية وتحريرية بالضرورة.. وهذا مشهد إعلامى لا يعكس حقيقة المجتمع ولا يخدمه.
ماذا تفعل الحكومات الواعية لتحمل مسئوليتها فى هذا الصدد؟ خذ مثلا الولايات المتحدة فلديها ما يسمى بـ«خدمة البث العام»، وهو قطاع عمره 43 عاما ويضم ما يزيد على 380 قناة غير تجارية، تملكها مؤسسات حكومية ودينية أو جامعات ومدارس وكان يطلق على هذا القطاع قبل ذلك «خدمة التليفزيون التعليمى الوطنى».
تقدم هذه الخدمة إنتاجا برامجيا لنحو 170 جهة مرخصا لها بإطلاق القنوات، يشمل كل الفروع المهملة فى الإعلام والضرورية لتثقيف الجمهور فى مجالات أكثر تخصصا وأقل جذبا للمعلنين وتنفذ هذا الإنتاج قناة أو أكثر من أكبر القنوات المنضوية تحت مظلة «خدمة البث العام»، هى التى تقرر ماذا تنتج دون ضغط من أحد. يسعى هذا القطاع إذن لتمويل نفسه بنفسه بنظام «التكافل البرامجى» إن جاز التعبير.
يشاهد قنوات «خدمة البث العام» كل أسبوع نحو 90 مليون مواطن فى الولايات المتحدة وحدها، معظمهم من الصفوة وقادة الرأى العام. وهى لا يعنيها أن تنافس القنوات التجارية على نسب المشاهدة، صحيح أن نسبة مشاهدتها لا تتعدى 2% من جمهور التليفزيون الأمريكى لكنها تقنع بجذب عشرات الملايين إلى أعمالها التربوية والعلمية. الفيلم الوثائقى (الحرب الأهلية) الذى أخرجه كين بيرنس عام 1990 وتم توزيعه من خلال «خدمة البث العام» شاهده أكثر من 10 ملايين مواطن.
كل ما سبق جعل لهذه القنوات مصداقية، كما شجع جمهورها على التبرع لها كل عام بمبلغ 500 مليون دولار، وهو ما يزيد بكثير على نصف دخلها السنوى.
قد نتوقع أن تكون هذه القنوات ذات طابع تقليدى، لكن الواقع أنها كانت أول من شجع على التحول للتليفزيون الرقمى كما سبقت القنوات التجارية فى خدمة البث بجودة عالية (إتش دى) والبث الحى عبر الإنترنت.
السويد مثال آخر، وهى من أكثر الدول التى يتمتع إعلامها بالحرية نظرا لنجاحها فى القضاء على الاحتكار فى سوق الصحافة، بعد أن دفع أكثر من مائة صحيفة فى الستينيات إلى إغلاق أبوابها أو الاندماج مع صحف أخرى مما أشعر الحكومة فى ذلك الوقت المبكر بالقلق على التدفق الحر للمعلومات فى المجتمع، فبادر البرلمان عام 1963 بتشكيل لجنة لبحث أسباب وسبل علاج تلك الظاهرة، أوصت فى نهاية عملها بتقديم معونات مالية مباشرة للأحزاب العشرة الممثلة آنذاك فى البرلمان لتوجيهها إلى الصحف الموالية لها غير أن بعض هذه الأحزاب أنفق المعونات على أنشطة حزبية أخرى والبعض الآخر مارس تأثيرا على الصحف الموالية له والمملوكة ملكية فردية مقابل هذا التمويل.
رأى البرلمان السويدى أن هذه المعونات قللت من إغلاق واندماج الصحف، ولكن ليس بالقدر المأمول، فشكل لجنة جديدة بعد أربع سنوات أوصت هذه المرة بتقديم معونات غير مباشرة تمثلت فى قروض ذات فوائد مخفضة لتمويل التطور التكنولوجى للصحف، وتخفيض كلفة نقل الصحف بالقطارات العامة.. ولم يقض هذا الدعم كذلك على الظاهرة، فلم ييئس البرلمان. شكل لجنة ثالثة أكثر جرأة عام 1972 أطلقت لأول مرة مشروعا لضمان التنوع الإعلامى تمثل فى تقديم إعانات مباشرة لصحف الأقليات وللصحف اليومية ذات التوزيع المحدود ولإصدار صحف جديدة غير يومية، وإعانات إنتاج لتوفير مواد الطباعة.
من أين أتت السويد بهذه الميزانية؟ فرضت ضريبة على الإعلانات، بالإضافة إلى ما قرره البرلمان من ميزانية الدولة المخصصة لما يسمى بمجلس دعم الصحافة.. وأرجوك لا تقارن هذا المجلس بصندوق دعم الصحف الذى أنشأه المجلس الأعلى للصحافة فى مصر عام 1983، هذا الصندوق الذى لم يهتم سوى بالصحف المسماة بالقومية، فوفر لها ورق الصحف بنصف الأسعار العالمية تقريبا، بينما ترك الصحف الحزبية فريسة للجنة شئون الأحزاب الخاضعة لسيطرة الحزب الحاكم بمجلس الشورى، وبعض هذه الصحف (مثل صحيفة الوفد) ظل لفترة طويلة لا يحصل على دعم على الإطلاق.
السويد لم تشهد منذ عام 1976 إغلاقا لأى صحيفة، والولايات المتحدة نجحت فى إشباع احتياجات معظم شرائح جمهورها وتسعى الآن للكمال بزيادة حظوظ النساء وذوى الأصول الأفريقية فى ملكية القنوات فالنساء يشكلن 51% من المجتمع ولا يملكن سوى 6% فقط من القنوات، وذوو الأصول الأفريقية يمثلون 13% ويملكون أقل من 1% (8 محطات فقط).
السويد والولايات المتحدة ما هما إلا مثالان من عشرات الأمثلة. هناك أيضا فرنسا التى تخفض أسعار الاتصالات السلكية واللاسلكية لصحافتها منذ عام 1880 وألمانيا التى خفضت ضرائب الصحف على الورق والأحبار وآلات الطباعة بنسبة 50% والنرويج التى دعمت التعاون بين الصحف الخاسرة فى مشروعات مشتركة للطباعة أو التوزيع حتى لو تعارضت سياستها التحريرية.
●●●
إن التنوع فى وسائل الإعلام لا يقاس بالعدد ولا بالقوالب البرامجية ولا بمحتوى الصحف ولكن بالتعبير عن الاتجاهات الثقافية والسياسية وأنماط الملكية وأصحاب رأس المال. إذا تركنا السوق يخطط لنفسه فسيهيمن عليه قطعا صوت واحد. الدولة هى الوحيدة القادرة على ضبط الإيقاع من خلال تقديم الامتيازات والتسهيلات والتراخيص المشروطة. هنا فقط لن يشكو أحد من طغيان تيار واحد على الإعلام وسيعرف الجمهور قيمة وأهمية «الريموت كونترول».
إعلامى وأكاديمى مصرى